في الإعلانات الكثيرة المتناثرة هنا وهناك، تتصدر جملة “إن لم تخُض هذه التجربة فقد فوّت الكثير”!
تُقنعك هذه الأساليب التسويقية أنت وغيرك، بأنّ للسعادة أنماطًا معيّنة، تتمثّل في زيارة أماكن بعينها، وامتلاك منتجات مخصصة، والالتفاف حول ما يسمونه مصدرًا أوحدًا للسعادات لأن صوت القهقهات حولها أعلى من غيرها، تلتفت طامعًا في نيل ذاك الشعور، تهرول ساعيًا لتغرف نصيبك منه، ولكن ترتطم بخيبة أمل تتمثل بالوجوم في حفلة الضحك الصاخبة تلك، لتعزز يقينك من جديد هم ليسوا أنت!
مثل الاختلاف الذي لا ينكره أحد في تفاصيل هذا الوجود الواسع؛ ملامح الوجوه، وتباين التضاريس، وتنوع الأطعمة، والثقافات والتقاليد والألبسة والطقوس التي لا يمكن أن تتماثل، حتى على مستوى الشخص الواحد الذي يحمل سلسلة من الجينات المسؤولة عن ظاهره الشكلي، مثلا ستجد نصفي وجهه غير متطابقين!
هذه المتغايرات أصل لا مراء فيه، نختبره كل يوم منذ الصباح حتى المساء، ومنذ الصبا حتى الكهولة، وفي أنفسنا وفي الكون من حولنا..
لذلك ما يسعدك، وما يجلب الهناء لقلبك، ويضفي ابتسامة وديعة على وجهك، ويزرع الطمأنينة في عقلك، ويمنح الاسترخاء لعضلاتك، أيضًا يخصك، دع عنك الأحداث الكبيرة التي يتشارك الجميع في ادراك جمالها واختبار سرورها!
تلك المسرات المخبوءة في صندوقك الخاص، وقودك السحري، والمعين على إعادة بريق عينيك الذي تطفئه الحياة بأحداثها وبلاياها، تعنيك وتؤثر فيك دونًا عن الجميع!
أؤمن أن لكل واحد منا، مسرّاته الصغرى، وأعياده الخاصة، ولحظاته الاستثنائية، التي تنقذه من براثن الملل والحزن والاعتياد، وتذكره بقلبه النابض القادر على اقتناص البهجة وعيشها.
مسرّاتي الخاصة
نص حي
كانت وما زالت القراءة متعتي، التي لا يمكن أن يسرقها أحد، وفرصتي للاختلاء بنفسي، وعند اطلاعي موضوع يثير فضولي، ويضيف لي، إما بطرح فكرة لم تمر بي من قبل، أو بوصف لشعور أو حالة لم أتمكن من التعبير عنها، يغمرني شعور اليمن!
رفيق ملهم
أرى نفسي إنسانة اجتماعية ومنفتحة على الآخر، ومقبلة على معرفة الناس، ولكن بانتقائية، واختبر جمالًا منقطع النظير عند مخالطة شخص جديد، يملك القدرة على استنطاقي ويشجعني على مشاركته الحديث بإثارة نقاش حول مواضيع معيّنة يُظهِر فيها فهمًا عميقًا!
شجاعات غير مرئية
قد يُذهل الناس بمن يُقدم على أفعال يجمعون على خطورتها أو صعوبتها وينظرون بتقدير لمن تجاوزها، ولكن هناك مخاوف خاصة بالمرء، قد يفعلها الآخرون ببداهة وبساطة، لكنه يعيش معركته معها وحده، واحدة من مسراتي التي لا تُعوض، خطواتي الصغيرة في كسر قيد أرعبني زمنًا، وما يرافقه من تبديد الوهم بعدم قدرتي..
مساعدة عالق
قد يعلق الإنسان في سجن فكرة أو شعور، قد ينال منه ظرف، وقد تنهيه كلمة، والاحتمالات لا تنضب، ولا أجمل عندي، من أن أكون ملاذه الآمن، فأتبادر لذهنه
ويستنجد بي، وكم يرقص قلبي طربًا، بعد حوارنا إذا قال: لم اكن مخطئًا عندما سألتك، ووجدت في كلامك إجابات ترشدني..
الفهم
في بعض الأحيان، يُشرع الجميع سيوفهم في وجه المخطئ، يلقون عليه سهام اللوم، ويسلقونه بألسنة حداد، كأنه أول من يحيد عن جادة الصواب،
تلك اللحظة التي أستطيع أن أتفهم دافعه، حتى وإن لم أقبله، وأنظر إليه رأفة، مانحة إياه إشارة بأنها ليست النهاية، وما يقابلها من امتنان ورغبة في البوح منه، لحظة ثمينة ومقدرة..
الانتباه لمغمور
تسعدني تلك القدرة على الانتباه لما يغيب عادة في غمرة الصورة الأكبر؛ الزهرة متوارية في شارع واسع، والمُحِب الذي يراقب نجاح حبيبه، والحريص على انتقاء اللفظ والسلوك، وكيس طعام القطط في الكرسي الخلفي للسيارة، وقطعة البسكويت الإضافية في جيب صديقتي، والرسالة للغائب في وسط تجمع عائلي..
هذا ما يحضرني الآن، ولكل فترة من حياتي، مسراتها، وأكاد أجزم أنها كنز لا يمكن الاستغناء عنه، يساعد المرء على المواظبة، فلا داعٍ لوجود أحداث كُبرى ونوعية حتى يُكمل، إنما محطات تزويد ممكنة، وميسرة!
وكما يصف المتنبي الحياة بسلسلة من الأحداث التي لن تعطيك لذات ومسرات خالصة:
جمحَ الزّمانُ فَما لذيذٌ خالِصٌ
مِمّا يَشوبُ وَلا سُرورٌ كامِلُ
أرى في اختلاس لحظات السرور الصغيرة، التي تمسّك وحدك، سبيلًا طيّبًا، للصبر على الدنيا، هل تؤيد هذا؟
إذا كان جوابك نعم، جرّب أن تكتب عن مسراتك، أسهب في وصفها، وتأملها، وركز في كل المرات التي تمر بها، اضحك من قلبك، واجعل شعور الحبور متغلغلا ومتمكنا من كل جزء فيك، كن صائدًا محترفًا يتعامل مع هذه اللحظات وكأنها آخر فرائسه..