لا بأس في “ألا تكون بخير”

يهلع الناس من مشاعر الألم والحزن والفتور والرتابة، تجدهم محملون برغبة دفعها ما استطاعوا، ولا يتخيلون فكرة وجودها، وكأنها تهديد لعالمهم الآمن -المزعوم- الجدير بأن يخلو من الشوائب. 

وأما الدنيا فقد جعلها الله هكذا؛ قوامها مملوء بالنقص، لا تكتمل لأحد، ومن أراد أن يعاند أصلها، فقد أشرع بابًا من الهم لن يجد لإغلاقه طريقًا!

ومصير ما تحوي لن يخرج من قاعدة ثابتة؛ “لا شيء دائم، وتقلُّب الأحوال السمة التي لن يجادل فيها أحد”. 

ومن هُنا تعجب ممن يتعجب إذا مرّ بشعور ودّ لو صرفه بما يملك، وبات يكابد جسدًا ويكد ذهنًا ليخرج مما هو فيه وكأن الأصل الهدوء والدعة والراحة! 

وكل شعور وضعه الله فينا لأسباب، بعضها ظاهر بإعمال العقل وآخر خفي لحكمة لا يعلمها إلا هو، 

والشعور دليل جيد لفهم النّفس ومعرفة معالمها، إذا كانت هناك عين مستبصرة لأصل نشوئه وثم تتبع أطواره وتحديد ما يعين على تهدئته أو تبديله.  

وأُحب أن يكون منهجنا في التعامل مع العواطف تعامُلًا عادلًا، وغير متحيز، ونحمل شعار “الحكمة ضالة المؤمن” الذي قد يجد في أكثر الأماكن صعوبة، وأجهد المواقف، ما يمكن التوقف عنده والكسب منه! 

القبول

النفور من أي شيء كان ممهِّد لهدر استغلاله؛ فالعين المستقذرة تعمى عن الجميل لانشغالها بالنقد، وكل شعور لن تتقبله ستجد نفسك منه كراهية واستعجالًا لطرده، يعيق استخلاص المعاني والدروس منه. 

ولا أنسى نصيحة أستاذي الجامعي، حين رأى إكثاري من (لا أحب، وأُحب) في حديثي فقال لي: حيدي العواطف واقبلي وجود التفاصيل دون تصنيف يحجب عنك الانتفاع منها! 

والنصيحة هذه تنطبق على المشاعر، حتى وإن كنا غير راضيين عنها ولا نُحب اختبارها، ولكن قبول وجودها لا بد منه، والتفاعل الناقم معها لن يغير من واقع وجودها، بل الأصلح النظر إليها ضيفًا مؤقتًا، قد لا يكون خفيف الظل، ولكن لن تُعدم خيره! 

الغضب

عادة ما ينظر للغضب بسلبية، حيث تخرج الأمور عن السيطرة، وتلقى الكلمات القاسية دون تحرز، وتخدش قلوب الأحباب بنصال قد لا يبرأ جرحها بسبب الاندفاع! 

ولكن كل ما يغضبنا هو طريق لاستكشاف أنفسنا، لأن الغضب تعبير مفاده أننا منزعجون، ونضيق ذرعًا بما نعيش، وإن التسلسل من رأس الهرم لقاعدته بحثًا عن السبب الذي جعل منّا لهيبًا لا ينطفئ، كفيل في تعزيز فهمنا لما يثيرنا وثم الوقوف عنده، والعمل عليه. 

والمشكلة الأساس، ليست الغضب نفسه، بل في تعاملنا معه، وهُنا طرق قد تسهم في توجيه الغضب وإدارته: 

 

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع).

في الحديث توصية لمحاولة تغيير الوضع جسديًّا، وكأن الخارج يرسل إشارة للداخل بأن علينا ضبط النفس. 

الجسد والعاطفة مكمِّلان لبعضهما، ولا يمكن الحديث عن جزء بمنأى عن الآخر، وبينهما تفاعل متبادل، يؤدي لتغيير الحال، وان كانت الحالة النفسية اثناء الغضب لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، فإن التعامل مع الركن المقابل من المعادلة، سيكون خيارًا جيّدًا ومنطقيًّا.

كل ما لا تتقبله، يُقيّدك، ويحول بينك وبين الحكمة، وأول خطوة إدراك أن الغضب جزء أصيل من الحياة، لأن الحامل لفكر ما ويسعى في سبيل هدف معين، لن يتعامل مع الوجود بلامبالاة، وسيجد غالبًا ما يغضبه في رحلة الحياة المعقدة!

ومن هنا كان تحديد السبب مهمًّا، اسعَ قدر الإمكان لمعرفة ما الذي رفع حرارة جسدك، ونفخ أوداجك، وهل يستدعي رد الفعل هذا بناءً على ما تحمل من قيم ومعتقدات وأولويات؟ 

ثم تحدّث مع شخص قريب وموثوق حول طبيعة ما تمر فيه، ففي كثير من الأحيان، قد تُفك عُقد المشاعر المستعصية في حضرة مستمع متعاطف. 

وحاول إعادة توجيه مشاعر الغضب لا تجاهلها، دون أن تخسر نفسك بتعبير لا يشبهك، أو تخسر من حولك، بكسر خواطرهم، عن طريق التوجه للصالة الرياضية وبذل جهد بدني، حتى تهدأ. 

 

الحزن

يزور الحزن ديار كل أحد، تاركًا أثره على الوجه فيبدو ذابلًا، والجسد واهنًا، والصوت رتيبًا  والأفعال مثقلة، يُخبرُك كل ما فيك أنك مرهق، وكل ما حولك لا يُحتمل. 

الحزن مهذب أساسي للإنسان، يأتي ليذكره بضعفه، وقلة حيلته، ويحاك بفضله نسيج الحكمة في داخله، فحين يبهُت ألق المحيط بسطوة شعور الأسى، تُرى الأشياء على حقيقتها. 

يطرق الحزن أبوابنا، عندما نمر بأوضاع تحتاج منّا حلًّا، يُحسّن حياتنا بتعجيل اتخاذ القرارت، وتحديد مواقفنا من الهواجس التي تسكننا، وبالرغم من التعب المرافق لوجوده، إلا أنه تعب تتبعه لذه الخلاص إن أحسنّا في اختياراتنا حيال ما يؤرقنا. 

القلق

القلق رد فعل وضعه الله في أجسامنا، استجابة لخطر وشيك يستدعي تشغيل نظام النجاة، ويُصنّف قلقًا صحيًّا إن كان دافعًا للعمل والالتزام نحو ما يقلقنا، ولكن على الجانب الآخر القلق المرضي، الذي يظهر جليًّا في أعراض جسدية مثل الصداع، والغثيان، والخمول والإرهاق، والأرق، وتزاحم المخاوف حول كل شيء، مسبّبًا عرقلة في سير الإنجاز يتطلب حلولًا، أهمُّها أداره التصورات حول الوقائع وتحديد تأثيراتها بدقّة، والعمل على اكتساب مهارات التكيُّف، إما بشحن الذخائر بالمعارف اللازمة للخروج من الأزمات المقلقة، أو بالعمل على التنظيم الانفعالي بضبط القلق إن كانت الأزمة واقعًا لا يمكن تغييره، وبالإضافة لما سبق التركيز على مفهوم المرونة النفسية الذي يُسهِم في خوض الحياة على علاتها. 

التأمل الذاتي

إن من صفات أولي الألباب {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} 

والمتفكّر من يرى آيات الله وعظيم قدرته في كل التفاصيل، وهذا يشمل داخل الإنسان ونفسه، هناك حيث تفيض المشاعر والأفكار، ويبرز عالم بأكمله لا تتوقف أحواله عن التبدُّل، آلاف الحكايا تولد وتموت، وكم من شعور جاء وتغيّر في لحظة، وكم من عاطفة بصّرت بطباع، وكم من حال أفضى لمقام! 

 

دوامة الحياة

في وقت لا يجد المرء فيه وقتًا مستقطعًا ليتحدث مع نفسه ويعرف خواطرها بفعل السرعة في سير الأيام وتفاقم متطلباتها، نجد في الاصغاء لعالمنا الداخلي والتعامل مع أركانه فنًّا لا مناص عن تعلمه! 

وأجلُّ ما تفعله في هذه الأوقات أن تحافظ على مساحة من اتساق الداخل تحفظ حركة الخارج، فمهما كان داخلك مضطربًا، رفاهية التوقف التام ليست موجودة، لذا لا تراكم، واحرص على التأمل والتطهير باستمرار، حتى لا تصل للحظة تجد نفسك أسير فجوة لا تقدر على ردمها؛ بين ما أنت عليه وما تحياه! 

Scroll to Top