سأشارك تفضيلًا غير مألوف؛ عادة ما يكره الناس ذكريات الفيسبوك، تلك المنشورات القديمة التي تُظهِر سذاجتهم، ومدى جهلهم، ووقوعهم بكل ما يتنكرون منه اليوم، ولكنّي أُحبُّها؛ أرى فيها مجهود الأيام، الذي أكسبني الصورة التي صرتُها، فرق شاسع؛ يعني جهد هائل وتوفيق إلهي عظيم.
واحدة من ذكرياتي التي لا أنساها، منشور قصير كتبت فيه: اليوم اعترفت لنفسي أنني أُحبُّها، هذا يوم انتظرته طويلًا!
يُقدّر فحوى المنشور، من عانى وعايش المُر، لأنه يحيا في جسد لا يحبه، ومع نفس لا يعرف إلا جلدها والقسوة عليها، ولا يبصر فيها إلا العيوب، ويسير في الدنيا غارقًا في المعاناة، كيف لا والنافذة التي يرى منها الوجود ويختبره ويحلل ما فيه، مهترئة تملأها الشوائب، هو بتجرّد غير قادر على النفاذ لأعماق روحه.
كان هذا اليوم، بمثابة نقطة تحول، جعلت كل ما بعدها مختلفًا، أحقًّا ينظر من لا يكره نفسه للمرآة ويستطيع الابتسام، حتى لو لاحظ لون وجهه المتغير من آثار الشمس، والحبوب التي تملأه، ومقاسه الذي ازداد مرتان في الآونة الأخيرة، وشعره بأطرافه المتكسرة، وغرفته الغارقة بالفوضى، وعائلته بكل ما فيها من غرابة، ومحفظته التي فيها بعض دراهم تكفيه ليومين لا أكثر، كل ما سبق من عوامل متعددة وعلى أصعدة متباينة لن تؤثر على معادلة المحبة!
إن كان للحرية تعريف فهذا هو، ألا ترتبط محبة النّفس بمعايير تفصيلية بعينها، إن سُلبت رجحت كفة كراهية الذات!
هكذا أُحب نفسي، وهي تتمثل التوسط المتعقل،
{وجعلناكم أمة وسطًا}، تشبعت بهذا المعنى الرحيم، الذي يخبرني ألا خير في التطرف، وأن ما من عز ورضا إلا وكان القسط له بابًا، والإنصاف له سراجًا.
فالإنسان قد يعلق بين طرفي كماشة، هما؛ احتقار الذات، أو تقديسها!
احتقارها؛ إنكار ما فيها من جميل، والمرور على اجتهادها ومحاولاتها عابرًا، وأما في الضفة الأُخرى تقديسها؛ وفيه غض الطرف عن مساوئها، والغرق في وهم تفوقها، والتمركز حول متطلباتها ومصالحها، مع إهمال ما عداها.
ولكن كيف أعرف أنني أُحِبُّ نفسي بطريقة صحيَّة؟
عِندما أسلك بها في طريق الهدى وأحيد عن مهاوي الردى، فأعتاد التصبر على طيب الخصال، وامتلك الإرادة لتصويب الزلل؛ بالتحرر من الذنب والعجز وأشباهها من الأغلال.
ولمحبة النفس علامات:
• تتعامل معها بلطف ورحمة، فكما تتخيّر كلماتك مع أحبابك، وتتجنب إيلامهم، فليكن لنفسك نصيب من هذه المعاملة.
• لا تحاول إخفاء شخصيتك الحقيقية، وكل ما يعبر عنك أصالة خوفًا من الرفض والهجر والنقد.
• لا تحيا حاملًا مقصلة التحليل لسلوكياتك، فترهق نفسك بالوقوف عند كل تصرف، ثم تنظر في سلوك الآخرين وتراه مناسبًا أكثر، وتقلدهم في محاولة لقبول نفسك والرضا عنها.
• لا تهتم بكيف يفسر الآخرون ما تفعله، ولا تعاني من ضغوط بسبب أحكامهم عليك، ولا تجد حرجًا من التعامل في الفضاء العام بأريحية.
• تهتم بصحتك الجسدية والنفسية؛ طبيعة طعامك وكميته، ونومك كذلك الأمر، وعلى اتصال مستمر بما وبمن تحب.
• لا تشعر بالدونية مقارنة بالآخرين، راضٍ عن شخصيتك، ومظهرك، وذكائك، ووضعك الاجتماعي.
• متوازن في التعامل مع إنجازاتك؛ تقدّرها إذا حدثت، وتصبر إذا تأخرت، ولا تركز انتقائيًّا على النقاط السلبية والفشل الحاصل في حياتك، مع هدوء في العمل، فلا تشعر بشكل مزمن أنك في سباق وعليك أن تنجز أكثر.
• لا تشعر بالحاجة الملحّة والزائدة عن الحد في الحصول على ثناء الآخرين وتركيزهم بكل ما تفعل، لتتيقن من جدوى ما تفعل.
• علاقات صحية ومستقرة مع من حولك.
• لا تقبل الأقل، في علاقاتك وخططك، وهمتك وانجازاتك، وتعلم أن في التوكل على الله والسعي قوّة عظيمة.
لا أحد يعرفنا مثل الله تعالى، وخطابه لنا يجمع الشدة واللين، ولأن له كمال المعرفة والحكمة، علينا أن نتعلم معاملة أنفسنا بنفس الطريقة؛ إذا وهنت وخبا عزمُها تداريها حتى تعود لحالها المعهود، وإن اشتد عنادها وتمردها عقلتها بإرادة من حديد، لعميق إدراكك أن المآل لن يُحمد، وأن الخراب يجر بعضه بعضًا!
أُحب نفسي، من تلك اللحظة التي خلعت فيها رداء المثالية، وسِرت في الدنيا مدركة ضعفي، فإذا وافقت منها همّة، ما تركت دربًا للكمالات إلا سلكته، وإذا أحسست منها فتورًا طلبت منها حدًّا أدنى لا يصح التقهقر عنه، وهذا التذبذب بما فيه من جهد، مشهود من الله، والله أخبر بنا منا
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}.
أحب إيماني، بأن اليأس سهل، والتشاؤم يقدر عليه الجميع، لذلك أُجِلُّ القدرة على الأمل في أشد الظروف، أعانني على هذا استحضار حديث الفسيلة* في كل أحوالي.
أُحِب قدرتي على رصد الجمال، والإحساس به، من أدق التفاصيل التي لا يؤبه بها إلى أظهرها.
أُحِب عاطفتي الحيّة، التي تمكنني من مواساة أحبابي، والتعاطف مع أصحابي، وقبل هذا كله الحنو على نفسي لتستطيع أن تمنح.
أُحب تلك الطاقة التي تنثر في المكان حال وصولي، والكفيلة بتثوير السكون مهما استفحل وطغى.
والسرد يطول، وهذا فضل الله، أن منحني هذه القدرة لتفصيل ما أُحب في نفسي بعدما كنت أكرهها ردحًا من الزمن.
وهذه المقدمة التي فيها من الإسهاب ما فيها، لنستخلص شيئًا واحدًا؛ محبة النفس مكتسبة، تستلزم وعيًا وجهدًا وأَحبابًا أسوياء يخبروننا عن مميزاتنا دون شعورهم باهتزاز “الأنا”، لإدراكهم أن النور الصادر عن الآخر، لا يحجب عنهم النور.
وما أبلغ قول القائل: لن تصل إلى الله بدابة لا ترحمها.
** قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل.