منذ فترة طويلة ولا يسيطر علي إلا شعور واحد، وهو الشعور بالاستياء من نفسي؛ لأنني لا أحقق منها التطلعات الكبيرة التي أطمح لها في شتى المجالات.
محملة بالأسى، لأنني لا أكتب بالقدر الذي أود، ولا أنجز دراسيًّا بالكم المتوجب علي، ولا أقرأ في المواضيع التي أهتمّ بشأنها بوتيرة تناسب تطور أفكاري وفهمي عنها، ولا ألتزم التزامًا تامًا بالحمية الغذائيّة، ولا أُنصت لأختي الصغرى بقدر كافٍ، كما أنني مقصرة في التواصل مع أحبابي، ولا أستطيع تقليل استخدامي للهاتف، ولا أفي بالوعود التي قطعتها لنفسي نحو التزامات جمّة!
لذلك أشعر أنني مطاردة، والمطارد خائف، متبوع بما لا يسره أن يبلغه، لأنه سيذكره بما لا طاقة على مواجهته، ولكن الركض متعب أيضًا، فإلى متى؟
إلى متى سأبقى محاصرًا في هذه الحيرة، وإلى متى سأبقى مقيدًا بشعور أنني فوّت شيئًا ما، وأن للحياة نهر قد جفّ قبل أن أرتوي منه، ومغامرات انتهت دون أن تصيبني دهشتها، وأصدقاء مروا دون أن أنال رفقتهم، وعلومًا ومعارف قد خسرت خيرًا عظيمًا إذ لم أحُزها من قبل، وقد تكون درعي الحتمي في مواجهة بعض أحداث الحياة، لكنها هناك على الرف الذي وضعت عليه أحلامي المؤجلة، وآمالي المختلفة!
الخائف أيضًا في شعور يقظة مستمر، يُنظر إليه ساكنًا، لكنه مستعر من الداخل، أفكاره متلاحقة، دقات قلبه خافقة، ومعدته معكرة تنبؤه بشيء سيء سيحدث ولا بد، وهذا الشعور بالقلق المزمن، كفيل أن يجعل الجسد في حالة طوارئ لن يقوى عليها، ظاهرًا في نوبات من الإعياء العام الذي يرافقه سؤال لم أجهد نفسي لماذا كل هذا التعب إذن؟
أو سيترجم بين فينة وأُختها بصورة من الغضب على أبسط الأشياء، لتجد من حولك يرمقونك ولا يراودهم إلا استفسار واحد ما الذي يستدعي رد الفعل هذا؟
لذا في مساء رائق يسبب الحرائق جلست مع نفسي، وعقدت معها اتفاقية ناشدًا منها الصلح، طامعًا بالسكينة، متأملًا ألا تردني مخذولًا!
أخبرتها عن عميق أساي، ومدى خوفي، وسعة رجائي، وطول طريقي، وضيق وقتي، مع كثرة العوائق، وشوائب الهمم، ونقص الرفاق، وغلبة الألم!
وإذا بها تستحضر لي مفهومًا كنت قرأته منذ زمن، على لسان المفكر عبدالوهاب المسيري، الذئب الهيغلي؛ وقصد به تلك الرغبة التي تلازم الإنسان في أن يجمع العلوم في صدره على تنوعها وسعتها، فلا يسمع نقاشًا إلا وكان قادرًا على الإدلاء برأيه، ولا يقرأ رأيًا إلا واستطاع أن ينقده ويرد عليه، لأن للمعرفة في ذاتها لذة؛ الفكرة المتخمرة، والمرتبطة بفكرة قد تبدو للوهلة الأولى لا صلة لها بها، تحدث في القلب شعورًا لا يمكن وصفه، ومن هُنا بدأت لعنة السير في كسب العلم لمن ابتغى ألا يحرم من هذا الشعور طوال حياته..
إنه أمر أشبه بالإدمان، ما أن تبلغ شعورًا معيّنًا لن يكفيك ما عايشت بل ستطلب المزيد، وتجتهد في تحصيله حتى وإن كان في هذا السبيل حتفك!
سنصل إلى تسوية، هذا الشعور لم يزرك وحدك، بل كان هاجسًا لأمم من قبلك، منهم من دخل هذا الطريق فما زاده إلا رهقًا، وخرج صفر اليدين، يعلم كثيرًا لكن على السطح، ومنهم من أنجاه الله وأنار بصيرته، وعلم أن عمره الآدمي لا يكفي لتحقيق هذا الأمل!
فتواضع، وخفض من فورة حماسه، وشرع في تهذيب الأمر، وتأصيله وتأطيره عن طريق:
تحديد الهدف الأبرز
يؤسفني إخبارك أن لا أحد يمكنه أن يكون كل ما يأمل من نفسه، فالأماني جمّة والعمر قصير، والموهبة تحكم، والانضباط عزيز، والسعي متفاوت، والظروف لها كلمتها، وإن جمعنا هذه العوامل، فإن أفضل ما يمكن أن تفعله هو وضع هدف منطقي كبير لحياتك تنضوي تحته أهداف فرعية تكلل كل مرحلة، متوائمة معها لتتضافر في النهاية وتحقق الهدف الكبير.
تقدير التخصصية
لا أحد ينأى عن الموسوعية، وكل في زاوية ما ينشدها كما يرقب الطفل الحلوى اللذيذة صبيحة يوم عيد، ولكن المنطق يقول أن للتخصص جاذبيته، ذاك القول المحكم المستند على الأدلة، وطول الخبرة، سيجد دائمًا أذنًا مصغية وله وقعه في النفوس، بينما الذي يتحدث في الفنون كلها، ستستمتع بحديثه، ولكن في نقطة ما، ستجد عمقًا في الطرح مفقودًا، فاته وهو ينتقل بين جمال الأفكار وتنوعها دون أن يبلغ جذورها.
تأمل الأثر
أغلب الذين تركوا بصمة في تاريخ الإنسانية، جعلوا أعمارهم وقفًا من أجل فكرة، حاموا حولها ذهابًا ومجيئًا، وضحوها من زوايا عدة، ووهبوا أنفسهم من أجل فهمها نظريًّا، وثم خلق واقع عملي وتطبيقي منها، وإن كنت تطمح لمثل هذا الأثر، ضاق أو اتسع، فلا تبرح محراب الجهد في الحرص على نوع الأفكار لا كثرتها..
قلِّم أشجارك
أتذكرون قائمة الكتب في أول المقال، قد يكون خطأي أنني وضعت في قائمتي ما لا أطيق من الكتب، وعلى هذا المنوال كل اللطميات التي سردتها وعززت المأساة، المشكلة أيضًا في توقعاتي من عدد التدوينات التي يجب أن أكتبها، وفي حصة من الدراسة في يوم عمل حافل، ومن مفهومي للتواصل مع الأحباب، فكما يحتاج المزارع أن يقلم أشجاره المتشابكة، أيضًا على كل واحد منا أن يراجع مفاهيمه، ومشاعره حول ما يجري في حياته، ومن ثم ردود فعله وسلوكياته!
تذكر صفة الدنيا
طبعت على كدر وأنت تريدها
صفوًا من الأقذاء والأكدار؟!
هذا الدنيا مادتها النقص، وكل سعي للكمال ما هو إلا هدر للطاقات في غير الممكن، إنما أخذ بالأسباب، واستغلال للأوقات، وكثير من الدعوات، مع سؤال البركة، قد يجعل الله فيه ما يُعين هُنا في مجال ما، ويثقل الميزان في يوم الحساب إن شاء الله.
أكثر ما أرى أنني مقصرة فيه؛ تعزية نفسي بالجنة، يخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن فيها ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، هناك حيث لا أماني منقوصة، حيث الخلود، والسعة في الفهم، حيث تصبح كل الصور واضحة، والألغاز محلولة، والحكمة بيّنة، والأخبار متصلة، وأي نعيم فوق هذا أخبرني؟!
كان حديثًا شيقًا أجريته مع نفسي، يبدو أنها تدخّر الدروس لأوقات النكبات الوجودية، وتخرجني من الأزمات التي إن أبحرت في غياهبها لابتلعني حوت اليأس وانعدام الجدوى، ولكننا اتفقنا أنه ولا بد من ثغر، مع جهد مضني لاستجلاب التركيز، والقدرة على تحديد الاولويات، ووضع خطوط عريضة لكل مرحلة، والله الموفق!