في أغنية وردة الجزائرية أوقاتي بتحلو مقطع جميل:
ويا روحي ساعة ما القاك
مش بس اوقاتي بتحلو
دي العيشة والناس والجو
والدنيا بتضحكلي معاك
تحلى مرارة العيش برضاك
تعبر هنا الكلمات، عن مدى تأثير مشاعر الإنسان على رؤيته للمشهد، فبمجرد وجود من تُحب، تغدو كل الأشياء بصورة مغايرة، تُقبل على العيش الذي انتقدته مرارًا، وحتى مراراته تصبح سائغة وحلوة، والناس من حولك ممن تعرف ولا تعرف، تتفتح أبواب القبول لهم في قلبك، تلك الأبواب الموصدة عادة ولكنها اليوم بكل سلاسة تستقبل المئات لأجل الحبيب.
إذًا استقبالنا للوجود معقد أكثر مما نتصور، وعوامل كثيرة تتداخل لترى الصورة النهائية، وأحد أهم هذه العوامل مشاعرك، على تباينها حزنًا وفرحًا واستغرابًا وذهولًا وغضبًا ويأسًا.
مثلًا يظهر هذا جليًّا لدى عدد من الاضطرابات النفسية، فمرضى الاكتئاب الممتلئون بالسوداوية والخزي وتأنيب الضمير، وُجِد أنهم يرون الحياة بلون باهت، بينما على الجانب الآخر المرضى الذين يمرون بنوبات الزهو أصحاب المزاج الرائق جدًّا يرون الألوان ببريق وشدة أكبر مما هي عليه حقيقة!
وللمشاعر تلك السلطة على تغيير نظرتك للماضي لا واقعك فحسب، فتغدو متصالحًا مع كل آفاته ومساوئه فقط لنيلك مبتغاك اليوم، كأن عاطفة اللحظة كانت كافية لتبدد الذكرى الأليمة، وتمحو ما فيها من وقائع موجعة وكأن أم كلثوم تردد بصوتها الشجي:
“صالحت بيك أيامي سامحت بيك الزمن
نسيتني بيك آلامي ونسيت معاك، معاك الشجن”
أحسست بعمق هذه المعاني، وأنا أشهد ما يحدُث في سوريا الأيام السابقة، كيف كانت اللحظات الأولى من الحريّة محوّلة تماما لتعامل السوريين مع الحياة، في ساعات بات الحديث عن الأمل غير مبتذل، والمخططات لاجتماع الأحباب في أماكن الصبا أمرًا ممكنًا، واكمال العيش دون وصمة اللجوء واقعًا، فقط عندما فُتِح باب القفص وفُرد جناحا الطائر وحلّق، أدرك كم القدرات الممكنة والمتاحة لديه، وأن في الحياة جوانبًا لم يرَها لأن سجّانه أحكم قبضته عليه لأمد طويل، وجعل كل فرصة وبداية مجرّد خيالات وأوهام لن ترقى لحيِّز الوجود المادي يومًا!
ثم قلت في نفسي، كم من حسرة في قلوبنا رُدِمت، عندما رأينا غبار الطريق يخالط أقدام الأسرى، والأهالي المبعدين عن منازلهم يعودون برأس مرفوع، والشوارع تصدح بأهازيج الحريّة والنّصر، والظلمة بين مختفٍ لا يتجرّأ على الظهور، وآخر بدّل لون جلده ظانًّا أن الجموع لن تميّزه!
كم سيكون يوم القيامة سلوانًا، كم ستبرد القلوب التي أظناها لهيب المظالم، وهي تُرد ويُجازى فاعلوها من قبل الحكم العدل والقهّار ذو الجلال والإكرام!
كم سمعنا من جمل تحمل معنى: نصر اليوم محا كل ألم قبله ونسأل الله التمام، فتعمق استشعارنا لمعنى الحديث الجليل “ويؤتى بأشد الناس بؤسا في الدنيا من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة فيقال له يا ابن آدم هل رأيت بؤسا قط هل مر بك شدة قط فيقول لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط ولا رأيت شدة قط”.
تُعلِّمنا الأحداث العظيمة المتواترة، أن كل شيء يحدث هنا إلى فناء، الأحزان تنتهي بتحولها للنقيض أو بموت المبتلين بها، والأفراح كذلك الأمر، والفطِن من تمثل نصيحة ابن عثيمين عندما قال: فينبغي للإنسان أن يتذكر دائما الموت لا على أساس الفراق للأحباب والمألوف لأن هذه نظرة قاصرة .. ولكـن على أسـاس فـراق العمل والحرث للآخرة فإنه إذا نظر هذه النظرة استعد وزاد في عمل الآخرة.
هناك حيث تظهر الحقائق، وترد المظالم، وينال كل فرد جزاء عمله كاملًا ولا يظلم مثقال ذرة، وما من عدالة هنا إلا وهي مظهر بسيط لمشهد العدالة المطلق بين يدي الله عز وجل.