منذ الصغر، كنت ذات ذوق موسيقي جميل؛ لأنني أحب صوت وأغاني وموسيقى ملحم بركات – تعليل غير قابل للاعتراض-، كنت أحفظها وأرددها بصوت عال، وكنت أحب أيضًا شخصيته العجيبة الجريئة والنشطة، وحماسه وسلطنته على المسرح، كانت هذه التوليفة محط إعجاب بالنسبة لي.
ولبركات أغنية في إحدى مقاطعها يقول:
مافي ورد بيطلب مي الورد بيبقى سكوت
إذا ما سقيته شوي شوي عالساكت بموت
وهو يحمل معنى الجملة ذائعة الصيت “الاهتمام مبيتطلبش” التي ترددها النساء كثيرًا في علاقاتهن مع الرجال، كناية عن بداهة ما يحتجن وغياب صدق حجج الطرف الآخر عند تبرير تقصيره.
وهذا المقطع واقعي إذا أُخِذ بحرفية، فإن كنت من محبي النباتات، وانشغلت فترة عنها لن تجدها كما كانت، بل سترى ذبولها وحزن أوراقها بدنوها من الأرض، وكأنها تستعد للرحيل الأبدي بالميل لأصلها.
ولكن نقل هذا المعنى لنا نحن البشر ليس دقيقًا؛ لأننا نمتلك ألسنة، إذا وجدنا ما لا يسرُّنا لن نتقمص دور الجمادات ونحبس الكلمات في صدورنا حتى نذوي ونموت كمدًا وحسرة!
والتأصيل لهذا المعنى واستساغته والتطبيع معه أمر غير مقبول، وجعل معيار قبول الآخر في حياة المرأة بمقدار ما يحقق من كشف للمستور بحجاب الغيب وتخمين المخفي في طيات الأدمغة ولا “أجدعها ساحر”، هو مما مهّد خراب البيوت في طور عمرانها؛ لما في هذا من تغييب لمهارة تمكّن عرى الارتباط بين الزوجين وتعزز فهمهم لبعض، والمهارة هي: “تحديد لغة التواصل واستخدامها والإفادة منها باستمرار ودون توقيت انتهاء“.
البحث عن الثمرة دون بذرة!
قد تقول قائلة: ولكني خبرت من يفهم زوجته من إيماءة أو من نبرة صوت أو حتى من نظرة معينة، فيهب مسارعًا يلبي ما يسرّي عنها!
وهذا ممكن ولكنه نتيجة التواصل وليس وليد تواصلٍ غائب، فإن كثرة الاحتكاك والتفاعلات تُنشئ لغة يجيدها الطرفان، وتجعل الواحد منهم مع مضي الوقت قادرًا على فهم حتى صمت شريكه!
ولكن البحث عن هذه النتيجة من العدم ودون بذل الجهد ما هو إلا طريق لخداع النفس، وعادة يفعل ذلك من استصعب العمل الجاد المطلوب في فهم الآخر وخلق لغة مشتركة معه، فيجد في مظلوميته وسوء الآخر الذي لا يفهمه سلوانًا، وكما يقول إخواننا المصريون “دا قصر ديل يا أزعر”، كناية عن من ذمّ شيئًا فقط لصعوبة الوصول إليه لا لزهده فيه.
التواصل وما أدراك ما التواصل!
التواصل الفعّال دُرة الملكات الفردية، تلك القدرة على التعبير عن مكنونات الصدر، بوضوح ودون تهيّب مما يفضي لتحقيق ما يود الإنسان مع الحفاظ على مشاعر الآخر ودون إيذائه.
والتواصل الفعّال مهم جدًا في علاج الأزواج، وبغض النظر عن طول العلاقة أو عمرها، إن القدرة على الانخراط في نقاشات فعالة حول العلاقة وكل ما تمر به، سبب مهم في تعزيز الرضا والمشاعر الإيجابية نحو العلاقة.
وإذا وجد الإنسان صعوبة في طلب احتياجاته، كان عن تسديدها أبعد، ولكن لحسن الحظ تعلم التواصل لطرفي العلاقة أمر ممكن، ويوفر مساحة من الفهم والسماع لا يمكن إيجادها في أي طريق آخر!
وإليك بعض النصائح:
كن منتبهًا:
امنح شريكك انتباهًا كاملًا؛ بتحييد كل المشتتات مثل الهاتف، أو التلفاز، وحاول إيصال رسالة قرب بلغة جسدك، خاصة إذا كان موضوع النقاش سيخلق مسافة نفسية!
تواصل بصريًّا:
حافظ على تواصل بصري مستمر معظم وقت الحوار، لأن الإشاحة بالنظر، قد تُفهم على أنها خوف من المواجهة، أو تجنب كلي.
عبّر عن نفسك، دون كيل الافتراضات عن الآخر:
حاول أن تتحدث عن نفسك ومشاعرك وسلوكياتك، بعيدًا عن وصف الآخر وسلوكه ومشاعره، وهذا يوصل فكرة مفادها أن كل طرف واعٍ ومسؤول عن نفسه في العلاقة وهو الوحيد القادر على شرح نفسه دون أي تحيزات أو افتراضات مسبقة.
الاسترسال مطلوب:
حاول أن تكون الأسئلة المطروحة تسمح بمساحة كافية من العرض المطوّل، وابتعد قدر الإمكان عن الأسئلة ذات الأجوبة المختصرة.
تأكيد الفهم:
حاول أن تعيد ما قال الشريك أثناء النقاش، لترى مدى فهمك لما يريد، وفي هذا تعبير عن الاهتمام وسعي أصيل لفهمه بدقة، مما يكسب الحوار قدرًا من الإيجابية المثمرة.
التشاركيّة:
إذا كان الحوار من أجل حل مشكلة معيّنة، حاول أن تعبر عن أفكارك، بتقديم حلول لكما دور فيها، وليس بعرض حل يتحمل فيه الآخر كل الجهد والعمل، وهذا يؤصّل لمفهوم العلاقات القائمة بمجهود كل أطرافها وأن كل ما يكتنفها متعلق بالجميع.
لا تخف:
حاول أن تحافظ على حوار متدفق دون خوف من المآلات، استمع باهتمام كي تصل لأعلى استفادة من حديث شريكك.
الحديث عن التواصل لا يُعتبر رفاهية، فكم من علاقات انتهت؛ فقط لأن أهلها تعالوا على تطبيق هذه المهارة في تعاملاتهم اليومية البسيطة وحتى قضاياهم الحرجة!
التواصل السهل الممتنع، الذي يحتاج جهدًا مستمرًا ومتبادلًا، وبه ندرك كم اختلافاتنا في تعبيرنا عن عواطفنا على تباينها؛ كيف نحب أن نفرح؟ وكيف نتصرف إذا غضبنا؟ وكيف نود ان يواسينا من حولنا إذا ألقت الدنيا بثقلها على أكتافنا؟
وبه ندرك تصوراتنا التي قد تتشابه أو تكون متنافرة بفجاجة، وكيف أننا إذا وجدنا أذنا صاغية وقلبًا مُحِبًّا قد نقدِّم علاقاتنا على الانتصار لأنفسنا ومعتقداتها!
إذن، الاهتمام يُطلب، عبر تواصل يوضح فيه كل طرف ما يحتاجه، وبإيجاد طرق تيسر الفهم المتبادل، أما العيش متقمصًّا دور النبتة التي تنتظر الماء، هذا لا يليق بنا كبشر، وكل سلوك مشابه متمثل بالانزواء والصمت والتجنب الذي يخلق التشوش في ذهن الآخر، ويجعله “يدخل بالحيط”، هو أبعد ما يكون عن النضج ومستلزماته!