لم يعُد هُنا! 

عادة ما تكون حياة الإنسان محطات، تُستذكرُ بناء على تفاصيل شكلتها، ورفاق كانوا أبطالًا في أحداثها، وكأن قدرتنا على فصل الأزمنة عن الأشخاص، أمر متعذر، فلا بد لكل مشهد من مشاهد الحياة المتسلسلة، أشخاصًا يكملون صورته النهائية. 

وكم تلتمع في ذاكرتي مواقف غُيِّب أصحابها عن واقع اليوم، ويا للعجب كيف لكائن بلحم ودم، أن يتحول لصورة ذهنية تحتفظ بها قواعد الذاكرة في أدمغتنا، وعندما نستحضر الماضي، في لحظة درامية، ينكشف وقع الغياب، وتُنبش مشاعر لا قدرة على تحديد ماهيتها تمامًا! 

مشاعر فيها من الحنين لأيام فاتت، كنت فيها نسخة مختلفة، تحيا تحديات متسقة مع تلك الفترة، تظافر الزمان والمكان، لتلتقي بأحد ما، بات شريك رحلتك تلك، وفي نقطة معينة، تفترق الطرق، معلنة بداية محطة جديدة، قد لا تجد ما يشير لبدئها إلا لقاؤك برفيق آخر، جلبته رحلته أيضًا لتكونا شاهدين على هذا الفصل من سيرة حياتكما! 

لفترة طويلة، كانت هذه النقلات النوعية، في الأماكن والظروف المنتجة لمجتمعات أحتاج للاعتياد عليها، تخلق نوعًا من المقاومة الشعورية والرفض الناجم عن تعلقي، فالحالة الوجدانية المنبثقة عن احتكاك مباشر ومتتال، وما يتخللها من انكشاف للنفس معين على تعميق الأواصر، وجهد مبذول على الوصول لاستقرار ما باستقراء المحيط والتوائم معه، يدعو بالتشبث والممانعة عن بدء كل شيء من الصفر. 

وفي معرض حديثي مع صديقة جميلة عن هذا الأمر، أخبرتني أننا عندما نصر على الاحتفاظ بشخص منتمٍ لفترة ما، فإننا قد نساهم في أسره بظرف وتقييده بشخصية قد يكون حان الوقت لوداعها..

وأحسن ما فعلته لنفسي، قبولي غير المشروط لهذا المصير الحتمي لأغلب العلاقات، فوجودي في حياتك سيكون مؤقتًا، ووجودك كذلك الأمر، عندما تجمعنا الدنيا، ويوحدنا قطار القدر لنتشارك ساعات الرحلة، فلنستفد قدر الإمكان، من النفع المتبادل، والنقد البناء، والمشاركة الطيبة، ولكن إن استدعى الأمر ليترجل أحدنا عند محطة ما، لن نكون عائقًا في وجه أي أحد من الشروع في مغامرته المقبلة! 

 كل مرحلة لها أهدافها وهمومها وتطلعاتها، عدم الإلحاح على وجود شخص ما فيها، لا يعني أنك لا تراعي العشرة، وإنسان أناني تقدم مصالحك الخاصة على مشاعر الرفقة الإنسانية، وأن الزمان “كشف حقيقتك المرة” وحاجة “منتهى غدر الصحاب والعمر كله عذاب” المعلقة على التكاتك وتقرأها كل صباح في طريقك للدوام، ولكن هذا يعني أن الزمان لم يتوقف بك، وعليك أن تنخرط في علاقات وتعاين أماكن مختلفة لتحقيق متطلبات المرحلة ومستجداتها! 

وكم تعجب إذا ما قابلت أحدًا عرفك في فترة ما، ويبدأ بتذكر  صفاتك وتصرفاتك، موضحًا انطباعاته المتشكلة عنك، لتبتسم، وأنت تراه شاهد عيان على شخص، كان يحمل رسمك واسمك، ودّعته مع صاحبك هذا، وترى كم أن الأيام التي غيرت في ملامحك، قد أجادت صنع ذات التأثير على صفاتك وأفكارك..

وهُنا يأتي التقدير والامتنان، لمن ظل ثابتًا، لمن رآك بنسخك كلها، وتقلباتها، وصراعاتها، من سمع منك أقوالًا، ورأى بعد سنوات ما لا يشبهها، وناقشك في موضوع، ورآك تتبنى نقيضه فيما بعد، وساهم دومًا في خلق محطة يكون فيها معك، فلم يزدد منك إلا قربًا، ولم يبدِ إلا فهمًا، وكان عن إطلاق الأحكام بعيدًا.. 

ستحسن لنفسك إن تجاوزت التعلق الطفولي والخوف من الغياب والهوس في استمرار حالة ذهنية سابقة، وعشت فصول حياتك وأنت مرحبٌّ لفكرة أن هناك مقبل وذاهب، ومؤقت وثابت، وأن ما عليك السعي لتكون كل يوم في سير نحو ما تريد من نفسك! 

Scroll to Top