لماذا هذا الولع بآلة الزمن؟!

منذ بدايات التقدم التقني الإنساني، وكانت الأحلام حول تصنيع آلة الزمن تشغل العامّة قبل العلماء، ويأتي هنا السؤال لماذا؟

لماذا يهتم البشر، باستمرار وإلحاح، أن يغادروا لحظتهم وواقعهم، ليعودوا بالزمن سنوات خلت وانقضت، أو يمضون قُدُمًا لمعرفة مستقبلهم؟ 

دعونا نتأمل سويًّا الأسباب الممكنة:

الحنين الجارف للماضي

في كثير من الجلسات، التي يتبادل فيها الناس أخبارهم وأمانيهم وطموحاتهم وهمومهم، لا بُدّ أن تسمع: “يااه يا ريت الزمن يرجع، كانت الأيام حلوة والعالم طيبة”، وما يرافق ذلك من تمتمات التأييد. 

والحنين برأيي: شوق لأشخاص وأماكن وأحداث مررنا بهم يومًا بعاديّة، وبتنا نرمقهم اليوم بعين الانبهار المفضي للتوق الشديد. 

ومن أسباب هذا الأمر ما نسميه الذاكرة الانتقائية: من خلالها يميل الشخص لمنح الماضي مثالية لم تكن موجودة، فقط لأنه يتذكر سالف الأيام دون تفاصيل. 

ليكن الأمر أكثر وضوحًا، اجلس الآن ممسكًا دفترًا ودوِّن أيامك خلال الشهر الماضي بالتفصيل، هل ستتمكن من ذلك؟

بالطبع لا ستتذكر أبرز الأحداث وأهمها فقط، وعلى هذا فقِس، ذكرياتك التي تمتلئ حسرة على انقضائها، زُيِّنت في عينيك، لأن ذاكرتك تعبأت فجواتها بما تُحب بعدما صار التذكر مع مرور الوقت صعبًا.

أما يومك وواقعك، أنت تحياه، بتفاصيله الدقيقة، وشوائبه وكدره ومهامه ومخاوفه، لذا تجد في الهروب إلى الحنين ملاذًا! 

التعويل الكبير على التغيير المستقبلي

على الجهة الأُخرى، لا يحمل جميع الناس حنينًا للماضي لما فيه من تجارب وأوقات صعبة خلقت عندهم عداء معه، ولكنهم يعوِّلون كثيرًا على الغد، هُناك حين تصبح الأماني واقعًا، والمخاوف بائدة هم المنشغلون في أحلام اليقظة وأفعال المستقبل (سأكون وسأفعل وسيحصل)، هناك حيث منتهى الآمال والمستراح من طول الرحلة وتعقيد الخطوات. 

التطلُّع لتجربة ما لا يتيحه الزمن الحاضر

قد لا يُعزى الأمر، إلى الهروب، وعدم الرضا والرغبة في التقاط ما سرقه الزمان أو كسب ما يحتاج وقتًا ليحدث، بل من الممكن أن الدافع هو الفضول البحت، مثلًا في الكتب والوثائقيات تطلع على التاريخ بكل تفاصيله، فتشعر برغبة عارمة، لرؤية أهل زمان ما، وتجربة طعامهم، أو ارتداء ملابسهم، أو مخالطة رجال ذاك الزمان، ممن قرأت سيرهم ورأيت نماذج كتاباتهم، وأمِلت في معاصرة الزمان الذي أخرج تلك العقول الفذّة، وتعيش أحداثًا معيّنة وتراها رأي العين، فمن عاين ليس كمن قرأ.

تخيّل مثلًا، أن تنتقل من مكانك وزمانك، لزمن النبي صلى الله عليه وسلم، وترى وجهه المتلألئ كالبدر، وتعاين أخلاقه التي قالت فيها أمنا عائشة رضي الله عنها كان خلقه القرآن، وترى مواساته للطفل الذي مات عصفوره، وترى صبره على زوجاته، وشدته في أوامر الله، وشجاعته في الغزوات، وسائر تفاعله وأمره في نهاره وليله صلوات الله على الحبيب المصطفى. 

ولكل واحد، لو جلست معه وسألته لوجدت في نظرته للزمان جانبًا لم تتوقعه وتتنبأ به.

ولكني أتعامل مع الزمن، في ضوء قوله تعالى: 

﴿لِّكَیۡلَا تَأۡسَوۡا۟ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُوا۟ بِمَاۤ ءَاتَىٰكُمۡۗ﴾

لا حزن على ما فات أو ما سيفوت، طالما هكذا شاء الله، وإن من مشيئته، وقت الإيجاد وتحديد الزمن الذي يناسبك، بأهله وتحدياته وأحداثه، وما عليك إلا الرضا والسعي في حدود الإمكان، وعلى الله فليتوكل المتوكلون. 

Scroll to Top