لماذا تصفع -حقيقة أو مجازًا-، بينما يمكنك أن تتحاور!

بعد منتصف الليل، تهدأ النفوس، وتقر الأعين ويخفت كل صخب، لكن يبدو أن جوف أحدهم يحترق كمدًا، حين يمر أمامه شريط عمره المنهدر، في مكان يفترض أن يمده بالحنان والعطف، لكنه – وبكل أسف- تلقّى فيه أشد الاهانات، وشهِد أعظم انكسارت نفسه!

في كل مرة يتأمل نفسه في المرآة، يرى الكدمات الظاهرة على ملامحه، والندوب العميقة في داخله

-لا يخطئها وبتفاصيل دقيقة- يتساءل هامسًا؛ خوف استئناف الأذى: لما يلجأ الإنسان لصفع أخيه الإنسان؟ وقد حباه الله بلسان يعبر به عن مكنونات صدره على تنوعها؛ غضبًا وعنابًا وتقويمًا ونصحًا!

يتساءل يوسف* كيف ستكون حياته، لو كانت طفولته في منزل مختلف؟ كيف هي حياة البالغ الذي عاش في بيت لا يعرف الصراخ -أيوجد بيوت هكذا أصلًا-؟

يجلس شاردًا في كل مرة يشارك فيها الأصدقاء ذكرياتهم عن سنوات الصبا، يحاول أن يكون كثير الاختصار، فتتوجه له الاتهامات دائمًا بالغموض وقلة الحديث، يود لو يصرخ بأعلى صوته: لست غامضًا!، لكن ليس هناك ما يُحكى -أو ما يُحكى شديد الإيلام فالصمت عنه أولى!-.

يوسف مثل الكثير من البشر، الذين اختار أهلهم أن يعلو صوت الشجار في أعشاشهم الدافئة، على الضحك والسمر والأنس، جدران تلك المنازل شهدت قصصًا، أبطالها الحزن والأسى والخوف والغضب، أريدك أن تتخيل معي عزيزي القارئ، أن ملاذك وبيتك الذي تهرب إليه من الدنيا وثقلها، هو الكابوس الذي تأمل أن تصحو يومًا وتغادره بلا عودة!

الأمل المسلوب

في مشاهد العنف طرفان لا وسط بينهما، ضعيف منهك، وقوي قاس ومتسلط، للعنف أشكال يعرفها جيدًا من خبرها، لكمة تُخلِّف كدمة، أو كلمة تترك جرحا غائرًا، ولكل معنَّف أسلوبه في سرد معاناته، وللأذى طيف واسع، ولكن ستلمس في معظم الأحيان نتيجة متشابهة عند المعظم، اكتئاب وحزن وقلق وإحساس غامر وعميق بانعدام الأمل.

أتدري ما الموجع؟

ليس أن تحيا حياة مسلوبة الأمل لظروف محيطة، الأشد ألمًا، أن تخلق هذه الظروف منك إنسانًا لا ينشد الأمل من نفسه، ولا يرى التغيير ممكنًا، أشد ما تفعله الأيام بك، أن تفقدك ثقتك بنفسك.

لماذا نؤذي من نحب؟

عزيزي القارئ، ألم تتساءل يوما لماذا يؤذي الزوج شريكته وأبناءه، دونًا عن الناس كلهم، حتى أنه في معظم الأحيان، لو شاع صدور هذا الفعل عنه لوجدت كثيرًا من معارفه، ينفون احتمالية حدوث هذا، على ما شهدوه من حسن خلقه ولطفه!

هب معي أنك شخص يعنف عائلته، ما الأسباب التي تدفعك لذلك؟

(الإيجو المتورم)

أنت شخص محبوب، يخبرك الجميع كم أنت رائع! لكن في بيتك يرون منك جوانبًا لا أحد يعلمها، وفي تلك المواجهة للحقيقة، عندما تخبرك زوجتك بمقدار أذاك أو تنتقد طبعًا فيك، تشتعل غضبًا لإيمانك باستحقاق حماية مشاعرك من الانتهاك، فلا تجد بُدًّا من الثوران ومعاقبة من تسبب في ذلك!

(غليظ الكبد)

عادة ما يستخدم الناس جملة “ضع نفسك في مكان من تلوم”، وتكون خطوة أولى للصبر عليه وتفهُّم موقفه، لكن إن كنت قاسيًا ولا تعرف التعاطف، وتميل لتفسير الأحداث بصورة مغايرة للواقع، وليس من وجهة نظر الشخص الآخر، سيتصدر سوء الفهم المشهد، وتكون عاقبة الأمر الاساءة!

(ماذا فعلت حتى أغضبته؟)

بصورة مريبة أنت قادر على ايذاء شريكك أو أبنائك، لوجودك في مجتمع يمنحك التبريرات والأعذار، فبدلًا من كف أذاك ونبذك ووصمك لنقص مروءتك، ستجد من يسأل اسمعوا الطرفين فقد يكونوا فعلوا ما يثير حفيظته وجنونه!

(جرح لم يبرأ)

قد يكون هذا الميل للعنف، ما هو إلا أثر لما تعرضت له، لكنك أهملت ذاك الطفل المعنف، والجريح، الذي لم يُستمع لأنينه، وشكواه، ومع مضي الأيام في بيت كثير الخلافات والعنف، تطبّعت مع الصراخ والضرب وبات الأمر اعتياديًا، حتى إذا طُلِب منك النقاش بهدوء، تعجبت، فأنت لا تعرف إلا الصراخ إذا أردت إيصال فكرتك، وإن لم تجد أذنًا صاغية، تكفلت يدك بالأمر!

بعد أن ذهبنا في جولة حول الأسباب التي تدفع أحدهم للايذاء، دعونا نرى بعين الطفل الذي نشأ في بيت مضطرب، ما هي مشاعره؟ وإلى أي مدى تأثر، بالبالغين الذين لم يصلهم مفهوم الحوار، والنقاش حول ما يزعجهم بعيدًا عن أطفالهم؟!

تشجع يوسف وتحدث عن طفولته بصوت مرتفع!

في كل مرة كان يتعالى صراخهم في الغرفة، كنت أشعر بأن الهواء يسحب بأكمله مع كل شهيق لهم، كنت أرى كلماتهم مؤلمة وأشبه بالسوط الذي يسلطه كل واحد منهم على جسد الآخر بلا رحمة، عدا عن الأشياء التي تتحطم، أود أن أكتب فصلًا كاملًا عن عبراتي المسكوبة، على ما خسرت من أشيائي بعد كل خلاف، دع عنك هذا كله، قد يبدو هامشيًا، ولكن ما كان يتملكني، شعوري بالخوف، وأمي وأبي لم يشكلا يومًا لي مصدرًا للأمان؛ ففي الوقت الذي يركض الأطفال عادةً لاستقبال آبائهم، كانت ترتعد فرائصي، لأن أبي سيجد سببًا ما، كبيرًا أو صغيرًا ليوبخنا، ويُسمع جيراننا سمفونيته المعتادة!

كبرتُ وقررتُ أن أقرأ أكثر عن الخلافات وتأثيراتها، في محاولة لأن أجد تعبيرًا عما يعتمل في صدري؛ لأنني مللت هذا البركان الذي في داخلي، وملامحي التي لم تعبر يومًا عني، كنت أرى الكثير من المعالجين يقولون عن حتمية الخلاف بين الشريكين، حتى أن بعض الأزواج الذين لم تعصف بهم رياح الخلاف في سنواتهم الأولى، ستكون فرصة تزايد المشكلات بوجود الأبناء أكبر، فيصبح طرفاها بغتةً أقل صبرًا ومرونة، وهنا كانت صدمتي إذن، لا مناص عن وجود المشكلات، لكن الفكرة كلها في طريقة التعبير عنها وحلها، وكيف كان شعور الاطفال حيالها!

بعد ذلك قادني الأمر لأطلع على صورة الخلافات المدمرة ولأني محظوظ كالعادة وجدتها قد اجتمعت كلها في والديّ، اللذين لم أرهم طوال حياتي على وفاق، اجتمعوا في أمر وددت لو اختلفوا فيه، وقد كان يشكِّل اختلافهم مصدرًا مستمرًا لألمي -سبحان مغير الأحوال يا رفاق- المهم أبي وأمي، كانا يتبادلان الشتم، وقد يتفاقم الأمر، للضرب، ولأن أبي طويل القامة وعريض المنكبين، كانت له الغلبة غالبًا في هذا القسم، وعلى بشاعة الفعلين السابقين، العجيب كان ما يجعل أمي تنهار بانفعال غير مفهوم، قرار أبي بتجاهلها، وانسحابه تاركًا المنزل لعدة أيام!

وفي حين أننا كنا نحظى بالهدوء ونسعد في غيابه، إلا أن لأمي رأيًا آخرًا.

تستمر المعالجة في سرد تفاصيل حياتنا لكن من الخارج، هي تعدد النقاط قائلة، الطفل سيكون قلقًا وخائفًا، ويعاني الأرق، وصعوبة في التركيز تؤثر على أدائه الأكاديمي، كما أنه قد يكون مندفعًا ومؤذيًا لزملائه، أو يواجه صعوبة في تأسيس علاقات وثيقة!

وأثناء قراءتي كنت ممتعضًا بشدة؛ هي تصف معاناتي ببساطة، ولكني اختبرتها، عشت معنى القلق وكيف كنت شديد الحساسية من أي صوت، وكيف كدت أكسر رأسي الذي يأبى النوم في ليال كثيرة، وكيف كانت قدرتي على فهم كلام المعلمين في الدروس ضربًا من ضروب الخيال، وكم كنت آمُل أن يكون لي رفقة لكني لا أعرف كيف يتواصل الناس ويتحابون!

جلست أتأمل ما أنا عليه الآن، ربطت كل جوانب حياتي بما حدث لي، وكيف أن التأثير كان ممتدًا لكل تفصيلة بصورة لم أتخيلها، المقال ساعدني في حبك الخيوط المتفرقة، حتى بات كل شيء أكثر وضوحًا!

لكل منا اختباره في هذه الحياة، ولا سبيل لمنع بعض الأحداث، ولكن قد يكون التحكم في إيقاف توغلها في أعماقك ممكنًا؛ فلا أحد قادر على سلبك نفسك، والأمل بها، والسعي في تحسينها، لكن في ذات الوقت يمكنك الوقوف مرددًا كلامًا مؤسفًا حول ما مررت به، وأن تجد مبررات لكي لا تتحرك من مكانك، وأنت الوحيد من يملك الخيار..


  • يوسف: صوت كل طفل تعرّض للتعنيف، ومثال حيّ لمشاعر من يكابدون بالخفاء لعيشهم في أُسر لا تعرف التراحم والتواصل.
Scroll to Top