أخبرني أحدهم مرة أنه مصاب بلعنة الاحتفاظ بالمحادثات التي بات أصحابُها غائبين..
مسكين هو الإنسان، يبحث عن كل ما يجعله قادرًا على الإكمال في هذه الحياة الملأى بصنوف من كل ما لو أطال التأمل فيه لفقد عقله..
ومن آليات تكيُّفه مع هذا العالم المشحون بالتغيير، والذي لا قاعدة فيه، محاولة التشبث بما يحب، بإطباق الخناق على متعلقاته حتى لا تغادره..
مثل صديقنا الذي في أول النص، لا خيار عنده إلا أن يحتفظ بالرسائل والكلمات والمواقف، ظنًّا منه أن في تخليه عنها فقدان لجزء من هويّته وكيانه..
ولكن ما جدوى بقاء ظلال الأشياء إن غابت عنا حقيقتها؟
وما الجميل في ابتلاع ذكريات بمعالم واضحة كأنها تُعاش الآن، بعد أن ودّع أبطالها الميدان بلا عودة؟
وما قيمة الضحكات دون صدى يقابلها بعد استذكار الحكايا؟
وما الروعة في إعادة فتح الهدايا دون من شاركنا دهشتنا الأولى فيها؟
وفي خضم هذه الأسئلة كأنني أسمع نونية ابن زيدون تتردد بصوت نور الهدى الشجي الذي لا بد أن يثير عبراتك إن سمعته:
أَضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
إذًا، الأصل والقاعدة في الدنيا الفناء، انقلاب الأشياء للعدم بعد وجودها زمنًا، لا شيء مما تحب سيبقى هذه الحقيقة التي نتقن تجاهلها مرة تلو الأخرى..
صدّقني أن إلحاحك على التمسّك بما لم يعد موجودًا لن يزيدك إلا عبئًا، سيحتل مساحات من نفسك ومشاعرك وأفكارك، كان من الأولى أن تُشغل بما يستحق.
ودعني أضرب لك مثلًا: مرضى اضطراب الاكتناز القهري، الذين يسيرون في الدنيا دون قدرة على إلقاء شيء مما يجدون، فتدخل في منازلهم لتجدها مليئة بالأوراق والصناديق والمقتنيات، “كل شيء قد يأتي وقت ونحتاجه” هذا ما يتردد في أذهانهم، لكن الصورة الحقيقية، طفل كبير، يظن كلما تملّك كان للأمان والراحة أقرب، وفي منزله الجميل لا موضع لحركة دون عرقلة بغرض ما، وتكدّس معيق عن العيش السوي!
كذلك نفوسنا نحن البشر، لها طاقتها وسعتها التي إذا ألحّت على ألا تغادر تفصيلًا أو ذكرى أو شخصًا أو موقفًا إلا ووقفت عنده، وحملته في جنباتها، لن تجد مع الوقت القدرة على اختبار الجديد،وإفساح المكان لتجارب تغمرها بزوايا نظر غير معهودة، لإشباعها بالغث والسمين دون انتقاء وتهذيب.
أطلق العنان للتخلي من كل ما يكبلك، من كل ما تراه لا يمكن أن يُمحى، من كل ما رأيت فيه قدرًا لا مفر منه، أنت هنا في هذه اللحظة، السلاسل التي قيدت نفسك فيها طويلًا تترك آثارًا عميقة، دعها قبل أن يفوت الأوان.
ولكن يأتي سؤال كيف ليطرح نفسه بقوّة، كيف نتعلم الإفلات، وكيف نتحرر بالتخلّي؟
تجربة سابقة
ينسى الإنسان أحيانًا أن ما يعيشه سلسلة من المواقف المتكررة حتى وإن اختلف السياق، وهذا يعني أن التفكير بالتجارب السابقة من التخلي، تجعل القدرة على أخذ القرار اليوم ممكنًا، لأن ما بعد التخلي أُختُبِر مسبقًا ولم تكن النتائج كارثية كما يُفترض الآن!
قدِّر عقلك وقدراته
للعقل قدرة هائلة على فلترة الأفكار غير المرغوبة والقائها جانبًا، جرِّب أن تستثمر هذه القدرة لصالحك.
قبول النقص والغياب
عملية القبول تبدأ من التعامل مع مواقف حياتية بسيطة تكاد لا تُلقي لها بالًا، بدءًا من كأس القهوة الساخن الذي حملته دون أن تصرخ، وتجاوزك لفكرة إلغاء أصدقائك للنزهة في آخر لحظة، وحتى الصبر وقبول الطرق المزدحمة، كل هذا يعزز مهارة القبول نحو ما هو أكبر بالأثر التراكمي.
التقييم المتكرر
اليقظة المستمرة حول تلك الأفكار والمشاعر والمواقف والأماكن تسهّل من معرفة المقيم الباقي والضيف المغادر في أقرب فرصة.
اطلب المساعدة
إن تعذر عليك أن تستبصر واقعك وحدك، وكانت الخطوات العملية غير قابلة للتنفيذ، فلا تتردد في طلب المساعدة من أهل الاختصاص.
ولا تغادرني كلمات هناء الماضي رحمها الله، التي وصفت فيها أفضل ما تعلمت ببراعة وقالت:
لو سئلت عن أجمل ما تعلمته على الإطلاق من أيامي المكتضة بالدروس لكان بلا تردد أني تعلمت أن أفلت يدي!. نعم أفلت يدي؛ من الناس والدنيا والأمل فيهم والرجاء منهم والتعلق بهم. أن أقاوم إغراء الظواهر فلا يصرع قلبي شكل أو رمز أو فكرة، أن أفلت يدي وأفرغها حتى من نفسي أن لا أبني في عقلي صور مختزلة، ضيقة، وأتوه فيها وأغرق رغم علمي بأن كل شيء ليس إلا وهم ما عدا وجه الله، وكم أحياني هذا اليأس وحررني!