قرار إسكات ” الدوشة” التي في رأسي!

في إحدى الدورات، التي كانت حول التعامل مع وسائل التواصل الاجتماعية، أخبرنا أبو عادي ملاحظة لم أكن أنتبه لها أبدًا؛ كل إشعارٍ من أي تطبيق هو تطفل غير مقبول على حياتك، واختراق لمساحة كانت بالطبع مليئة بشيء ما، وجاء الإشعار معطّلًا لسير ما كنت تعمل!

ونصحنا أن تكون السلطة بيدنا، لا أن نكون دمى تحركنا الاشعارات، وتسرقنا من لحظات كنا مغمورون فيها بكلنا، وذهب بوجودها جزء كبير من حضورنا الفاعل وتركيزنا!

ندخل ونتابع متى ما أردنا نحن ذلك، ونسحب سلطة الحضور القهري لتلك المواقع على حياتنا وتفاصيلها المتنوعة. 

القرار الأهم في هذه الفترة من حياتي، أن أكف عن كوني إنسانة مدووشة! 

الإنسان المشغول؛ لديه برنامج ممتلئ وأهداف واضحة يسعى لتحقيقها، لكن دعني أُخبرك عن إنسان اليوم المدووش كما يصفه دكتور همّام يحيى؛ هو من على المستوى العملي والإنجاز الفعلي، يكاد لا يسير، ولكنه يلهث، كأنه يركض بلا توقف، وهذا ينطبق على أدمغتنا التي تُثقل بالأفكار، والماجريّات، وتُسلب القدرة على التركيز لفترات طويلة على أهداف محددة، دون عيش انقطاعات بسبب مشتتات لا حصر لها. 

أنظر بعين الإجلال، لكل شخص، استطاع أن يخلص نفسه من أعباء تكبله، الذي تحرر من كل الأيدي التي تنهشه من كل مكان؛ لأن المرء اليوم يقف في منتصف الطريق، ومن جميع الجهات تمتد الأيدي لتقوده في اتجاه معيّن، فأنّى له أن يصل لمبتغاه؟ 

دعني أسهب في فكرة التشتت، أنت اليوم مطلع على حيوات أشخاص كُثر، وهذا الأمر لم يكن متاحًا على هذا النحو، قبل ما يقارب ٢٠ عامًا، ترى في يوم واحد، الإنسان الرياضي والصحي، والمثقف القارئ، والخطيب المفوّه، والمعتني بجماله وأناقته، والذي يملك مشروعه الخاص، واذكر ما شئت من نماذج تطفح بها صفحات المواقع المختلفة.

كل هذا يولّد عندك رغبة محمومة، في مقارنة نفسك، مع هؤلاء، بعضهم يشبهك، يتكلم لغتك، ومن جيلك، فما الصعب في أن تسير على خطاهم؟!

الأفكار كثيرة، والآمال أكثر، والمدخلات أكثر وأكثر، وقائمة المهام أكثر وأكثر وأكثر، وما تنجزه على الحقيقة أقل، أنت لا تعرف من أين تبدأ، ومهام الأمس يضاف إليها مهام اليوم، مع أرق البارحة، وتراكمات تخلق حالة الدوشة والشلل التي تعيشها. 

هنا عليك أن تتوقف، تأخذ نفسًا عميقًا، تمسك ورقة وقلمًا، تخاطب نفسك بصدق، لتفهم، وتبصر متجردًا قدر الإمكان، من كل ما يخبرك به العالم أنك تحتاجه، وتقول بصوت عالٍ ما تريد وتحتاج على الحقيقة، وبما يتناسب مع شخصيتك ومهاراتك وطريقك وقيمك، مراعيًا بشريتك، ومحدوديتك، وأولوياتك. 

تكون واقعيًا، غير متلبّس بيأس مقعِد، ولا بطول أمل يبني لك من الأوهام قصورًا، وتبدأ رحلتك، متخففًا من ضغط المجتمع، والتوقعات المبالغ بها، ومتكيّفًا مع طول الرحلة، واحتمالية الفشل والوقوع، وحاملًا لزاد من الصبر الجميل، وعميق اليقين، بأن ما من أحد أخلص نيته لله، وأحسن العمل، ونوى بأفعاله الخير الذي قال عنه الله تعالى: “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفاءً وَأَمّا ما يَنفَعُ النّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ”؛ هانت عليه الطريق، وبلغه الله ما يُحب إن شاء الله. 

وإسكات الدوشة، قرار صعب، لأن فيه انتزاع للنفس، من متعة الحضور المكثف؛ الذي يجعلك قادرًا على التفاعل مع الناس بأحاديثهم اليومية حول “التريندات”، وفيه خروج من دائرة راحة، كنت تظن فيها نفسك منجزًا لمجرد تخطيطك وانغماسك في أحلام اليقظة، إلى ساحة العمل الحقيقية، بما فيها من جهد وتعب وتركيز وملل ووقت طويل لحصاد الثمار، في حين كانت اللذات السريعة لا تنتهي بين أسوار الدوشة! 

Scroll to Top