في العيادة النفسية، لا أملك سوى ورقة وقلمًا، كي أصل للتشخيص، أحتاج أن أجلس مع المريض وقتًا كافيًا، أُراقِب فيه كل تفصيل، مشيته وهيئته ولباسه وحركاته وتواصله البصري، محتوى أفكاره وكيف يعبر عنها وغيرها من الظواهر التي لا بد أن تقود لمعلومة تقرّبني للفهم.
ومن التوصيفات التي أقف عندها، ما نعبر عنه بمصطلح [preoccupied]، ويعني انشغال المريض المحموم بموضوع ما يجعل من الانتباه لشيء عداه أمرًا صعبًا، ويظهر ذلك؛ في تأخر الرد على الأسئلة، وغياب التواصل البصري، وأحيانًا الحاجة لتكرار السؤال من جديد.
وهذا الإنشغال ليس طبيعيًّا؛ مؤدٍ لانفصال عن المحيط، ونقص في معدلات الانتباه لكل ما فيه، وتقصير في جوانب أُخرى، لتوجُّه الجهد والبذل نحو مكان واحد، مما يترتب عليه استنزاف مُخِل لكل الموازين.
والإنسان بالعيادة هو الإنسان خارجها، وإن كان انشغال المريض بسبب أوهام تسيطر عليه أو هلوسات تسلب كل انتباهه، فإن لكل واحد منا فكرة تشغله وهم يحركه ونقص يسعى لجبره وهدف لا يبرح ذهنه، ولكن درجة الانشغال ومداه وتداعياته هي الفيصل!
انشغال محمود
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً
تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
والنفس العظيمة، لها من الغايات الشريفة والمطامع الكريمة، ما لا تطيق الأجساد البشرية الضعيفة، فهي في ميادين الحياة منشغلة بما ينفعها وينفع ما حولها، غيثًا طيبًا مباركًا أينما حل وارتحل، ولكنه انشغال فيه ترفع عن السفاسف، تتسامى فيه المطالب وتتدرج لتبلغ رضا الله، وتتطهر من أدران الملذات، وإشباع الاحتياجات المادية، لتُعلن انتصار المعنى على الكسب اللحظي الفاني، مع مراعاة الاعتدال الموصل لإعطاء كل جانب حقه، وما أبلغ قول رسولنا لمن أرادوا أن يُغالوا في أداء العبادات: وقال: «لكني أنا أصلي وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني».
ولا أحد مثل النبي صلى الله عليه وسلم، فهو الذي حمل هم الرسالة، حتى بلغت آفاق الأرض بحسن صنيعه مع صحابته، وعلى ثقل الأمانة، كان نِعم القائد والمعلم والصديق والزوج والأب.
ولنا في رسولنا أسوة حسنة، فإن التذرُّع بالانشغال مهما كان طيِّبا لا بد أن يرافقه حسن تدبير وعمل فلا يطغى ويسيطر على جوانب الحياة ويلغي وجودها.
والفكرة الجوهرية التي يناضل كل فرد من أجلها، ميزان الصدق في تحقيقها أن تصبغ معانيها الأشياء من حولك، فتصبح الجهود الموزعة في كل مكان ما هي إلا رافد إضافي للمعنى الأساس الذي تدور حوله حياتك.
الانشغال المذموم
وعلى الجانب الآخر، انشغال لا تُبلغ به غاية، تُكابد فيه النفوس من المعاناة ما يستنزفها ويجردها من وقود كان من الأولى أن ينفق فيما ينفعها ودعنا نعرِّج على بعض أشكاله:
الانشغال بالناس
حديثهم وسلوكهم وردود أفعالهم والمقاصد اللُّدنيّة المتقصى عنها بسوء الظن والنبش في النوايا، والاهتمام بما لديهم من أرزاق، والخوض في المقارنات، والتسخط على المفقودات، والسعي بينهم بالفتنة والغيبة، حتى يكون مدار اليوم الآخر وكل ما يصدر منه، وما يترافق من ردود فعل عليه!
الانشغال بالنفس
يتمثّل بالانشغال الهوسي بالنفس، وما يرافق ذلك من صب جام التركيز على تلبية احتياجاتها والانغماس في رغباتها، وتقديم راحتها ومطالبها على الأولويات والمسؤوليات، وفي هذا إمعان في عبادة الذات وتقديسها.
الانشغال بالفكرة عن العمل
وهذا نوع من الإحتيال الذي تمارسه النفوس، فإنها تقنعك بأهمية ما تفعل – وهو مهم بالمناسبة ولكن لا يكفي- من انهماك في التنظير للأفكار وتأصيلها وفهمها، لكن دون خطوة على أرض الواقع، وهذا يعزز الفجوة بين الإيمان بأفكار معينة وإمكانية الإفادة منها حقيقة!
وهو نوع من التسويف -اللي لابس بدلة- يظهر بصورة الفهم والعمل على تخمُّر الأفكار، ولكنه في الأصل قلق مُشِلٌّ للأركان ومؤخر للإنجاز.
الانشغال بالماضي
ينسى كثير من الناس، ضعفه وبشريته، ويتعلق بأفكار مثالية حول ما يجب أن تكون الأمور عليه، وكيف كان سير الأحداث السالفة غير ما يود ويتوقع، فيحبس نفسه في زنزانة الماضي وأحداثه، حيث لا أمل في تغيير ما بات واقعًا لا مفر منه، لكنه لا ينفك عن تذكره، واجترار أحداثه، وتعديل نتائجه بتخيل الأحداث لو حصلت بصورة مغايرة، وهو بفعله هذا، ينتزع صفة أصيلة فيه وهي فعل الخطأ، والتعثر والفشل، ولأنه لا يقبل هذا الأمر، يخوض معاركًا لا طائل منها، مع صورة لا تبرح خياله، حكم عليها بالإعدام، وجاء تاريخ انتهائها مباشرة في الثانية التي تلت انقضاءها.
الانشغال السطحي
في نهاية كل عام ميلادي عادة، لا بد أنك تلاحظ عزيزي القارئ، من نفسك وممن حولك، جردًا حول أحداث العام مجملًا عن أهم أحداثه والدروس والعبر التي صنعت في القلب والعقل الكثير.
ولكن على أعتاب النهايات لن ترى إلا أبرز الأبرز، الكثير من التفاصيل الدقيقة المخبأة في صفحات الأيام ستخفى عنك، ولذا أعتبر هذا الوقوف في نهاية العام أمرًا سطحيّا، لأن مراجعة النفس، والتأمل في الأيام ليس من المفروض أن يكون باعثه تاريخ تلمحه على تقويمك، ويدفعك لتكتب وتراجع أداءك في العام المنصرم!
محاسبة النفس
والأصل في مراجعة النفس أن تكون ممارسة يومية وعادة جديرة بالاكتساب، لا عملية مؤجلة، فنيل الحكمة يستدعي انتباهًا، والانتباه ابن اللحظة، وكلما بعُدت المسافة وطال الوقت كان تحصيل الخبرة وتعلم الدرس أصعب!
ونقاط التحول والمواقف المحورية التي لا تعود الحياة كما كانت بعدها، قد تصادفك في أي وقت، وهنا على الإنسان أن يتوقف عند كل ما يضيف له دون تأقيت، وعلى صعيد آخر لا تراكم للخبرات المتوارية إلا بعناية المتأمل والحريص على الوصول لنتائج مرضية، وكلا الحالين لن ترزقهما إلا بدقيق المساءلة، وشديد المراقبة، وما يرافق ذلك من تطبيق عملي.
لا تترك نفسك، ولا تُهملها، قم تجلس عند باب العام الجديد متطلّعًا لأن يقلب حياتك رأسًا على عقب، احترم عقلك وإمكانياتك، ولا تحصر قدرتك على التعلم وخلق الفرص بحيز زماني ومكاني بل اجعل من كل لفتة وكلمة وموقف أرضًا خصبة لبذر الطيب، دون انتظار لحصاد على هيئة معيّنة، فما دمت زارعًا، لا بد من جني للثمار في يوم ما، وعيت ذلك أم لم تعي!