في مجتمعاتنا المحافظة المتدينة بطبعها، ينظر للوالدين بتبجيل مستمد من النص الشرعي -الذي لا خلاف معه طبعًا-، مما يجعل الحديث عن التوتر في علاقة الأبناء مع الأهل أشبه بالسير بين أعشاش الدبابير.
من منظوري الشخصي، فإن المجتمع غارق في التنظير حول “المفروض”، “وما يجب أن يكون الوضع عليه”، ولكن يتجنب بقصد أو بدون، الحديث عن الواقع كما هو دون تزييف، يسهُل الحديث عن المثالية، وبلسان طليق، ولكن ما أكثر المتلعثمين والمطبطبين عند الخطأ والنقص.
الأم، تلك الشمعة التي تنير عتمة المنزل، ومنبع العطاء الذي لا يعرف النضوب، واليد التي لا تتوقف عن التربيت، واللسان الذي لا يعرف إلا الدعاء والدعم، والصدر الذي يستراح بدفئه من ضنك الدنيا ووحشتها، أرأيت ما أجمل هذا الوصف؟ وكم هو باعث على الأمل والحياة! ولكن تأبى الدنيا إلا أن تريك الجانب المظلم.
لا تفارقني كلمة سمعتها من فتاة: ” أيامي الحلوة حتيجي، لما تموت”، قاصدة والدتها، ولا حصر للنماذج التي عانت الويلات من أمهات نلن اللقب، دون ما يترتب عليه من واجبات وتضحيات، فكانت الجنة تحت أقدامهن – كما يرددن؛ تهديدًا للرضوخ دون جدال لأذاهن- حتى خلقن بذلك جحيمًا لا يطاق لأبنائهن.
دعنا نضع الكلمات الحالمة والجميلة عن الأمومة جانبًا، ونحكي أكثر عن أمّهات مؤذيات، يعانين من صدمات لم تُحل، نتيجة التعرض لتجربة أمومة، جعلتهن فيما بعد أمهات عاجزات، وأورثن ابناءهن الألم والحسرة.
لا شيء جوهري مثل علاقة الأم بطفلها، يولد وأول ما يختبر من الدنيا عيناها، وحضنها الدافي، أمه مرآته، منها ينظر لنفسه، ويشعر بها ويحدد هويته، أمه تبلغ المرتبة الأعلى في حياته، تكاد تكون إلهًا، إذن، ماما لا تُخطئ، وكل قبيح رمتني به حقيقة لا مراء فيها، وكل ما يصدر منها وإن بدا غير مفهوم، أنا المتسبب في وقوعه.
جرح الأم
ليس تشخيصًا إنما عامل يمثل نمطًا من أنماط صدمات التعلق، التي تجذِّر إيمانًا راسخًا داخل الطفل، أنه مكروه ومنبوذ وغير خليق بالرعاية، ومشاعره وما يرغب فيه لا يحملان أي أهمية. وهو طريقة للنظر إلى سلوكيات الحاضر، بالتدقيق بما كان مفقودًا في الماضي.
كيف نعرف أننا نعاني من “جرح الأم”؟
دعونا نسلط الضوء على عبارات تُسمع ممن مروا بهذه التجربة:
“نفسي أعمل شي يعجب ماما”
كل ما أفعل صدقوني كل ما أفعل “حقيقة لا مجازًا” مادة خام لانتقادات ماما اللاذعة التي لا تنتهي، ولك أن تتخيل شعور المرء وهو خيبة أمل متحركة لا يصدر عنها ما يُثنى عليه أو يُفخرُ به!
“بعطي كل شي عندي، بس أفهم شو بدها”
أمي غير متوقعة، قد أفعل شيئًا اليوم ويمر مرورًا عابرًا، وأكرره في الغد، لأجد عقابًا ينتظرني لفعلي خطأ لا يغتفر.
لا يمكنني التنبؤ، أعيش بغير هدى؛ ردود أفعالها مختلفة لا علاقة لها بالسياق، فقط ما يحدد مزاجها في تلك اللحظة.
” كنت ماما لماما”
كانت علاقتي بوالدتي، لا تشبه علاقات الناس الطبيعية، حيث تلبي الأم عادة احتياجات طفلها، في حالتي كنت أنا من أهتم بها سواء على صعيد احتياجاتها العاطفية أو المادية.
“أنا مو مهم وما إلي أي قيمة”
كانت عبارات الإهانة مثل شربة الماء في المنزل، ولدى أمي شهادة دكتوراة في “تكسير المجاديف”، ولا زالت تتردد في داخلي عباراتها: ” شو يا كتلة الغباء”، “كل الناس أحسن منك”، “شو عملت بحياتي حتى الله يبليني فيك!”.
“آخر ملاذ”
عادة ما يلجأ الأطفال من حولي لأمهاتهم، إذا زارهم القلق، أو إذا أرهقهم الأرق، لكن كانت خياري الأخير، حتى وإن غرقت في الحيرة والألم.
“كل شي أولوية إلا أنا”
يلحظ الطفل انشغال والدته، بالعمل والأصدقاء، والهوايات، وزوجها وحتى ابنائها الآخرين، بمقدار ما يشغل كل جزء مما سبق من تفكيرها، وجهدها، وينظر كيف همِّش دائمًا مقتاتًا على فتات الوقت والشعور.
“لا حدود عند ماما، أنا ماما وماما أنا”
كل شيء يغدو مباحًا، هوياتنا غير منفصلة، انغمس فيها وبمشاعرها وصفاتها كأنها أنا، وإن حاولت الإنسلال قليلًا، بحثًا عني، كان شعوري بالخزي والعار يلاحقني. وهكذا صار الصمت والتأييد المطلق صديقي المقربان.
هل من سبيل إلى شفاء؟
هذا الجرح عابر للأجيال، سلسلة تحتاج لأن يعي أحد أفرادها ضررها، ثم يعمل جاهدًا بوعيه على كسرها، لأن كل ما غير الطبيعي، استمراره يكفل استمراءه.
من بيئة صنعت عيبًا، إلى بيئة أبرأت جرحًا
لا يختار أحد عائلته، ولكن يستطيع أن يصنع دوائر أصدقاء وثقات، توفر الأمان، وتساهم في التعافي بالتعبير عن المشاعر التي سكنت طويلًا داخلك، وعن الوصمات التي قيلت مرارًا لنسختك طفلًا؛ من عدم المحبة والقبول وغياب التقدير.
للتعبير أشكال شتّى
لا ينحصر التعبير في الحديث، وقد يكون أمرًا صعبًا عند البعض، ولكن ماذا عن الرسم، والغناء والشعر والكتابة؟ كلها طرقٌ خلاقة للتعبير قد تسهم في وضع اليد على الجرح.
الغفران
الاعتراف بالمشاعر، والحداد على ما لم تنله صغيرًا، قد يجعلك أكثر قبولًا لغفران ما سلف.
الأمومة صعبة، كلمة لن تعيها إلا إذا حملت أطفالك بين يديك، والأمهات يخطئن جميعهن، ولكن قد تكون أخطاء البعض فادحة جدًا، وقد نختزن غضبًا لا يصمت، لأننا لم نعش مع نموذج الأم الذي رسمناه في مخيلتنا، ولكن عندما ننظر للأم التي حظينا بها كما هي دون افتراضات أو أماني، هذا سيسعفنا على السير في طريق الفهم والقبول.