في أحد أفلام استديو غيبلي “مطر الذكريات” وفي مقطع طريف يأتي الأب بفاكهة الأناناس، والتي يبدو أنها غريبة على قاطني المنزل، الذين ينظرون إليها بتعجُّب ويجهلون طريقة تقطيعها وأكلها، حتى جاء الفرج بدخول إحدى الفتيات متهللة مستبشرة، لتخبر الجميع أنها عرفت سر التعامل مع هذه الفاكهة النادرة، فتجتمع العائلة متأملة بعين الدهشة عملية التقطيع، ووضعها في الاطباق، ثم تحلقوا حول طاولة الطعام، ليبدأوا تجربة التذوق، الكل يأكل، وعلامات عدم الاستحسان تظهر جليًا على كل الوجوه، ولا أحد يعلق، حتى يأتي صوت الابنة الأصغر: إنها صعبة المضغ!
لتتوالى بعدها التعليقات من الجميع: ” ليست مميزة” “ليست حلوة” “الموز ألذ منها سيبقى الموز، متربعًا على عرش الفاكهة”
ثم تتصدر الصغرى المشهد مرة أخرى، بعينين حزينتين وتكمل مضغ القطعة تلو الأُخرى كأنها تود تكذيب نفسها ومن حولها، كيلا تزول الصورة المتلألئة في ذهنها عن هذه الفاكهة الجديدة ذات الرائحة الجميلة!
ألا يخطر في بالك شيء الآن، وتبتسم!
كم مرة كنت مكان تلك الصغيرة، وكانت لديك التصورات العظيمة مع اختلاف الأناناسة في قصتك، وعندما بلغت مرامك، وتحسست ما سعيت له بين يديك، ونظرت له رأي العين، بعد أن كان حلمًا بعيدًا لا يفارقك، فإذا بالشعور غير الذي كنت تطمح، وبالواقع غير الذي كنت تأمل، يا لخيبة المسعى، ويا للحسرة على دمع الطريق، ولهفة القلب، فتخاطب نفسك: أهذا ما سرت قاصدًا إياه طامعًا متشوقًّا، فألفيتني حزينًا خائبًا؟
فن تبجيل المفقود!
للبشر مزية تجعلهم ينظرون على ما غُيِّب عنهم، بعين التقديس، ويكأن وجود هذا الفائت سبيل لنيل السعادة التي ما نهل من نهرها يومًا، فقط لو أن ما حُرِم سيق إليه لوجدته راضيًا مستقرًّا – هكذا يدّعي-، لكن هيهات والفوائت وقلة الحظ عنوان حياته!
صفعة الواقع، من بين السحاب إلى عمق الأرض.
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل والخيال، يأمل كل واحد منّا والأماني جمّة، وفي مثلنا الشعبي نقول: “إشي ببلاش كثّر منه”، فكل ما عليك الجلوس على أريكتك، واطلاق العنان لأمانيك، دون أن تتكبد عناء ماديّا أو جسديًّا، فما المانع؟
فأنت غير محاسب ولا مقيد، وأمِّي لا تعرف ما تأمل إلا بالمقاربة، فتمنح لعقلك سلطة كاملة، ليحدد طبيعته، وشعورك حيال نيله، ومقدار التغيير الذي سيحدثه وجوده عليك.
ولكن عند اللحظة التي يتحول فيها الحلم حقيقة، فيتجرّد من كل بهرجة أضافها خيالك الخلّاق، ستصدم بعادية الأشياء إن أصبحت لك، فتراها وتجربها حتى تعتادها كأن لم تحفَ في الأمس من أجلها.
سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن كثرة قيامه حتى تفطرت قدماه وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فقال: أفلا أكون عبدًا شكورًا.
والعبد الشكور: من انشغل بالموجود عن المفقود.
صفة لا يمكن إلا أن تقدّرها، وتجمع عزيمتك لتحتذي بها، فكم من نعمة فقدت قيمتها لوفرتها وعدم شكرها حتى باتت في عداد المستحقّات، وكم من فائت كان أقل مما تتوقع، ولكن، كم أغشيت الأبصار، وتنكرت الأوهام بثوب الحقائق.
لذا، سر هادئًا مطمئنًا، منزلًا سقف التوقعات، واعتدل فيه، ولا تضيّق واسعًا بخلق صورة غير مرنة عن الخير، واقنع بما بين يديك، واسع بقلب واثق بالله ومحسن الظن بحكمته وقضائه، فسلسلة أمانيك لن تتوقف، وهذا طبيعي، ولولاه لما رحت تشرع في كل اتجاه نحو غاياتك، ولكن ضع نصب عينيك أن إلحاح الشعور والاحتياج خليق بصنع سراب السعادة البعيد هناك، فيكلفك خسارة الجنة ممن حولك لقربها وإلفها.