إن كان للمسرّة شكل لتمثلت في إنسان قارئ؛ لأن للقراءة سلطة منح الأشياء معنى الحبور والسرور.
لا أُصنِّف نفسي قارئة متمرسة ذات جدول مزدحم من القراءة أو أعدُّ نفسي من القرّاء أصحاب القوائم المصفوفة من عناوين للكتب المُطَّلَعِ عليها من قبل، ولكني أُحِب القراءة وأجمل أوقاتي تلك التي أختلي فيها مع نفسي، وأشرع في تصفح كتاب ما، فأجدني في عالم غير هذا العالم لشدة انغماسي في محتواه وتأثيره بي.
وإن كنت سأصف أطيب اللحظات عندي حين أقرأ؛ لقلت عن كل المرّات التي مررت فيها بعبارة أو نص بصّرني بما غُيِّب عني جهلًا، فإذا بفيض ملهم يضيء فانوسًا في رأسي، يجعلني أبتسم وأطيل التأمل مكررة ومبتهجة به، وأجمل الكتب تلك التي أخرج منها بفوانيس كثيرة، أو فوانيس قليلة ولكن بضوء شديد السطوع!
للقراءة تلك القدرة، على انتشال المرء من حيرته، بتعرضه لأسئلة الآخرين التي لا تبرح ذهنه أيضًا ولكن دون قدرة على إجابتها، فيجد في إجاباتهم ما يبدد “كركبته”، وما يمكّنه من البناء عليها نتيجة استكشاف وجهات نظر لم يعهدها، أو بتمكينه من الترقي في مدارج السؤال وتعقيداته!
والكاتب المجيد يصفه أستاذ عبدالله الشهري بأنه:
هو الذي لا يكتفي بإعطائك الفكرة، بل يعينك على فهمها وتشرّبها حتى تصبح جزءًا من تكوينك الثقافي.
وللقراءة تأثير أثير على الجانب النفسي، وبها قد ينال الإنسان ما لا يناله بمجالسة الآخرين، أو التنزه، لما فيها من استجماع لذهن حاضر وما يرافقه من خيال وربط وتحليل، يُكسِبه قدرًا من انتزاع النّفس من اللحظة التي هو فيها ليتسامى عن همومه الشخصية وأفكاره الاعتيادية، فيسرق من الزمان لحظة هاربًا عن كل ما يُكدِّره.
وللقراءة مغانم عظيمة منها:
تعزيز الفهم والتصور الحياتي
يحيا الواحد منّا في ظروف معيّنة، توفّر له انكشافًا على تجارب محصورة، في طبيعة تعاملاته الحياتية، والشخصيات التي يلتقي بها، والأوضاع الاجتماعية وما يترتب عليها من قرارات وأفعال، وهذا سبيله لتأصيل منظومته الفكرية والقيمية، ولكن بالقراءة عوالم لا يستطيع اختراقها بمحدوديته البشرية، عوالم من الأفكار والشخصيات والمواقف والحكايا، خليقة بأن تجعل مفاهيمه عن الحياة أكثر تنوعًا وغنى.
والقارئ أكثر قدرة على فهم الآخرين، لإدراكه كم تباين البشر، فحكمه مستمد من تجربة بشرية جمعيّة، غير مختصرة على التجربة الذاتية ضيّقة الأفق.
وفي هذا عيش لحيوات في حياة واحدة، فالقراءة تطيل عمرك معنويًّا عندما تنغمس في خبرات من عاش ومن يعيش معك، وهل تصدق أنها تزيد العمر حقيقة تبعًا للدراسات الحديثة!
التعافي من الألم النفسي
يُستعان بالأدب والقراءة بجانب العلاج النفسي؛ يُطلب من المريض قراءة كتب معيّنة ويناقشها المعالج معه أو ضمن مجموعات الدعم، ومن خلالها يستطيع أن يحمل تصوّرًا مختلفًا عن ماضيه وحاضره والأشخاص من حوله، وقد يجد في بعض النصوص تسلية إذا خاطبت معاناة لديه، أو عبرت عن مكنونات صدره، وفي وصف الآخرين شعورًا بذاته مواساة، وفي تفجّر ينابيع الفرج بعد طول معاناة أملًا بالتغيير.
توتر أقل
على المستوى المادي، للقراءة تلك القدرة على خفض نسب التوتر، حتى وإن كانت بمعدلات قليلة ولكن مستمرة؛ حيث تبدأ دقات القلب بالانخفاض، وعضلات الجسد تسترخي، والذهن يصفو، وهذا يخفض معدلات التوتر بشكل ملحوظ.
تعزيز التعاطف مع الآخرين
في فسحة القراءة والخيال، قدرة على توسيع المدارك، والتأسيس لفكرة الاختلاف التي قد لا تلحظها في انعزالك مع نفسك وجماعتك، والشعور ابن الفهم، وإن اعتل الفهم كان الشعور عليلًا، لذا رؤيتك لوجود الآخر المختلف عنك والذي عاينته في أحوال عديدة بسعة اطلاعك طريق لمشاعر صحية نحو الآخر، قد لا توافقه على فعله، ولكنك مدرك لأبعاد الفعل وقادر على التعاطف معه.
ذاكرة صلبة
للقراءة قدرة على حماية الذاكرة من النسيان، لأنها فعل تنشط فيه خلايا الدماغ، وتبسط فيه مهاراتها وتبذل جهدها، وبها تكون الذاكرة أشد صلابة وأطول أمدًا.
علامة سعي ووعي
قد لا يمتلك الإنسان الموهبة، ولكن قد ينال بسعيه ما لن يبلغه الموهوب لضعف همته، وبالقراءة الواعية الفاعلة يستطيع الإنسان أن يصبح أكثر حكمة وفهمًا، وما يُحصّل بكد الذراع وشحذ الذهن وتسخير الوقت ملفت وقيّم!
لذا وبعد هذا كله ما زلت مترددًا وحائرًا من أهمية وجود نصيب من القراءة في جدولك اليومي أو الأسبوعي؟ ألا تُريد أن تصنع شجرة الفوانيس الخاصة بك؟