جيّد “بما يكفي”

الحيل الدفاعية من أبرز المفاهيم التي صاغها فرويد وهي مجموعة من السلوكيات التي تصدر من الإنسان لتقليل توتر داخلي؛ ناجم عن خلاف بين ما يرغب به وما يقبل المجتمع، لذا يلجأ لهذه الحيل في سبيل حماية صورته الذاتية ومنعًا من خدش “الإيجو” الخاص به، وإحدى هذه الحيل الصدع (splitting) ويشتهر به أصحاب الشخصية الحديّة، وفيه ينقسم العالم للونين لا طيف بينهما، أبيض وأسود، فإما ما أراه وأتعامل معه وأعيشه في غاية الجمال والبهجة، أو  شديد السوء لا كلمات تفي لوصف قبحه! 

وهذه الحيلة الدفاعية تصنف أنها استجابة غير ناضجة، فلا يمكن أن تتقلب أحوالك بين حالين لا خيارات أُخرى لهما! 

وهذا فخ المثالية يجعلك تهيم في نموذج معين، لا تحيد أنظارك عنه، ولا تكف عن السعي من أجله، والنتيجة إما استنزاف للجهد يترافق مع غياب عن الرضا عن الإنجاز لارتفاع المتطلبات، أو التوقف عن العمل لأنه بواقع الحال والمعطيات المتوافرة ما من طريق لبلوغ ما تريد!   

واحدة من أكبر الأزمات التي سمعتها ممن تناقشت معهم حول أهدافهم وأدوارهم في الحياة، كانت تجلّي مسحة التطلب المثالية في ما يريدون من أنفسهم وممن حولهم، معايير وضعت على مسطرة لا تراعي أن لكل صفة يودون تمثلها، وهدف يرغبون في الوصول إليه، وعلاقة يدخلون فيها، مدى واسعًا نالوا خيرًا لو رضوا بالمتاح منه واستغلوه، ولكن إن أردت تعجيل خسارتك، تعامل مع الحياة بأسلوب “إما أو لا”. 

لذا نجد الطامعين الآملين كُثُر، وأما العاملين قلة لا تكاد تراهم في ميادين الحياة المختلفة؛ لأنهم أرادوا تحصيل رغباتهم بالضربات القاضية، ولكن البلوغ لمن راكم النقاط كما يقول أستاذنا بدر الثوعي، وامتهن الصبر على العمل حتى بغياب أفق واضح.. 

مؤخرًا اطلعت على مفهوم سرق انتباهي وأثار في نفسي الكثير وصفه طبيب الأطفال والمحلل النفسي دونالد وينيكوت وهو “أم جيِّدة بما يكفي”، أكّد من خلاله أنه ليس على الأُم أن تكون مثاليّة لتنشئ طفلًا صحيًّا نفسيًّا محاطًا بالمحبة والرعاية، بل يكفي توفُّر بيئة مراعية ومستجيبة لاحتياجاته! 

جيد بما يكفي! 

حبذا لو تحمل شعار “إنسان جيد بما يكفي”، في الستة شهور القادمة ودع الواقعية حاضرة في أهدافك، ثم تمتع بحياة ملؤها القبول لعاديّة الإنسان، وعشوائيته، وفتوره، وحتى قوّته، قبول للوحة الحياة دون اشتراطات؛ فيها رضى عن قراءة نصف الورد، وعن علامة ليست قريبة من التمام، وعن منزل فيه غرفة مليئة بالفوضى، وعن اجتماع أُنجِز فيه بندان، وعن نزهة تعالت فيها الأصوات، وعن رفقة لم تفي بأحد التزاماتها، واهنأ بهذا النقص وانظر لما تتعلم منه، وتجاوز أضواء المُثُل البرّاقة التي تعمي الأبصار وتقيّد الخطو. 

عبد ينشد رضا الله بقلب متعثر 

يبدأ شهر رمضان، تنهال النصائح عن حسن استغلاله من الجميع الأهل والأصدقاء والدعاة، تنظر لحالك السالف، ثم ترمق هدفك البعيد في علاقتك مع الله، فيرتجف قلبك، أنّى لي هذا، وهذه من آفات الكمالية، أن تعزف عن حسن إدارة أوقات الهبات الربانية لتطلبك صورة معيّنة من الجهد والبذل، وفي هذا السياق استحضر نموذجين: 

الأول:

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:  إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ، رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ. وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لِأَنْ يُقَالَ: جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ، وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ، وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ: عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ: هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللهُ عَلَيْهِ، وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلَّا أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ: هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ، ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ

الثاني: 

أسلم الأصيرم يوم أحد، فقاتل حتى استشهد، ولم يصل صلاة، لأنه قتل بعد إسلامه مباشرة، وشهد له النبي -صلى الله عليه وسلم- بالجنة. 

يعلمنا الله أن مناط الأمر ومرده قلب مخبت، ولا عبرة لعدد الركعات، وطول الختمات، ما لم يرافقها إخلاص لله تعالى، تعلمنا هذه النماذج أن لحظة صدق مع الله كفيلة بالتدرج في مراقي العبودية، وبلوغ رضا الله، وأن الأمر لم يكن يومًا بعملك إنما دومًا برحمته ولُطفه. 

بين النظرة الحازمة للحياة من أصحاب حيلة الصدع، والرحمة الكبيرة في مفهوم الأم الجيدة بما يكفي، يمكن أن نفسر الكثير من السلوكيات البشرية وطرق تعامل الناس مع الحياة بشكل عام، والسعي لتجنب المثالية والعمل بانضباط هو مفتاح الرضا في شتى المجالات! 

Scroll to Top