يُقال: من اعتاد القلق، ظن الطمأنينة فخًّا.
أطلت التأمل فيها وشعرت بالأسى علينا نحن البشر، كيف نبدأ الحياة بأوج طاقتنا مبادرين متأهبين للتجربة، حتى إذا انهالت علينا الخبرات حتًّا وتعرية، ألفيتنا متوجسين نمشي والحذر متاخم لنا.
التصورات
من منظور نفسي، تعني البنية العقلية التي تساعد الإنسان في فهم العالم من حوله، وتشمل الاعتقادات، والافتراضات، والتوجهات، المشكِّلة لطبيعة تفسيرنا للأحداث والأوضاع المحيطة بنا.
ففي حين يرى شخص ما العالم مأزقًا وعبئًا ينوء عن حمله، يتعامل آخر معه بمثابة تحدٍ يرغب باستكشافه كل يوم مملوءًا بالحماس والإيمان، وهذا التنوع في استقبال الوجود، دليل جلي على عمق تأثير التصورات وجوهريتها.
التعامل مع التوتر، مثالًا.
لا أحد محصّن من البلاء، ولا بد أن يجد الإنسان نفسه في لحظة ما، أمام ما لا يسرّه، وينغص عليه، ويقلق راحته، ويجهد ذهنه، ويكد بدنه.
وله في التعامل مع هذا الأمر، مسالك متباينة، فالمتوكل المتفائل؛ يرى في الشقاء حالًا لا مقامًا، وتحديًّا مؤقتًا، يسخّر جهده وخبرته لتجاوزه بأقل الخسائر، بينما “البومة” المتشائم؛ يضخم المشاكل ويرى فيها نهاية المطاف، وأمثاله مولعون بنسب مآسيهم لسوء الحظ، ومفتونون باللطميات، ومهرة في العجز والاستسلام!
وهنا أحب دائمًا أن أُذكِّر نفسي ومن حولي، بأن من الأهمية بمكان، ألا نمر بالفترات الحياتية الصعبة والمؤرقة بلا وقوف طويل، خشية تذكر ما استنزفنا، لأن الوعي بردود الفعل والقرارت المتخذة، بالرجوع إلى الجذور والنشأة، تمهيد للتصويب والتعديل التراكمي حتى الوصول للمطلوب.
كيف تتشكّل تصوراتنا؟
الملاحظة والمحاكاة: التفاعل الإنساني المكثّف، بما فيه من شخصيّات لا يمكن أن تغادرنا إلا وقد تركت بصمتها فينا، مثل الوالدين والأساتذة والأقران.
قد تكون سمعت من أحدهم، كيف عانى من قسوة والده، ولكنه في ذات الوقت، مسكون بتلك القسوة، ممارس لها، شعورًا وفعلًا، وكيف تعاني تلك الفتاة من تدقيق بالتفاصيل يصل للهوس، لأن والدتها مدمنة لهذا النوع من الملاحظة، فما كان لها إلا أن تسير على خطاها، دون أن تحيد بقيد أنملة.
العمليات الفكرية: لا يمكن لأي أحد إنكار دور القدرات المعرفية، التي بموجب تطورها ونضوجها، تفسح المجال للخروج من أُحاديّةِ التصورات، إلى تبني نظرة أكثر تعقيدًا وتشابكًا للكون وما يجري فيه.
الخبرات: إغفال الخبرات الفردية، بأصالتها وبما تخلِّفه عند من مرّ بها، غير وارد إذا أردنا سوق أسباب نشأة التصورات.
وهذا مما لا يختلف عليه إثنان، بأن الحوادث الصادمة والمؤلمة، تولّد تصوراتٍ سوداوية عن الوجود، وما أمثلة الشرطي الجنائي، والطبيب الشرعي أو النفسي أو السجين أو المشرد أو الناجي من الحرب أو الكوارث بما رأوا من جوانب الحياة المظلمة، التي جعلتهم أكثر حذرًا وأشد غلظة في نظرتهم للحياة عنا ببعيد.
العامل الاجتماعي والثقافي: للمجتمع بعاداته وقيمه وأحكامه هيمنة لا يُستهان بها، في ضبط التصورات والتشبث فيها.
المجتمع هو منبع الانحيازات المعرفية، مثل: الانحياز التأكيدي؛ حيث يرى الإنسان في محيطه الدلائل والعلامات التي تعزز اعتقاداته الموجودة أصلًا، مع إهمال لكل ما يمكن أن يقوضها.
التفكير الجمعي: يضع الأفراد الانسجام بين مكونات المجتمع أولوية على ما سواه، حتى وإن ترتب على ذلك التخلي عن العقلية النقدية والتحليلية.
والرضوخ للراحة على حساب المعرفة، كفيل باضمحلال التفكير الخلّاق، ودفن التنوّع المثري بالركون للمعتاد.
الحكم على الشيء فرع من تصوُّره، ومن هُنا نعلم أننا أسرى لتصوراتنا التي بدورها تتشكل من تجاربنا، إذن، أنا وأنت في سجن كبير؛ تجربة فردية تخلق حكمًا على ما حولنا وليس هذا فحسب بل وتحدد سلوكنا المستقبلي وردود أفعالنا!
وما لم يعي الإنسان أهمية العمل على المدخلات الراسمة لتصوراته، لن يتحرر من هذا السجن، ولن يتذوق حلاوة رؤية العالم بعدسة اسم الله الواسع.
جزء كبير من النص مبني على ترجمة المقال التالي: