مثقل بي، أجر من خلفي أحلامي وأحمل في يدي اليمنى حظي المريض أعبر من بين الجموع منكسا ابتسامتي وأردد.. أيها العابرون هذه أشيائي للنسيان من يأخذني عنها أو يأخذها مني!
• هاجد محمد
يولد الطفل، ورؤيته للأشياء ضبابية، ومع مرور الوقت، ترتفع شوائب الصورة، ليرى الأشخاص والأماكن بوضوح، ويبصر ملامح العالم من حوله!
يكبُر، متيقِّنًا من عينيّ والدته العسليتين الواسعتين، ومن خديها الورديين، ومن كف يدها الأبيض الدافىء، ولا يخطىء ظل والده الطويل، ولحيته الكثّة، وابتسامته العذبة، ويميز إخوانه بيسر، الكبير بشعره الناعم الذي يغطي معظم وجهه وحاجبيه المقطبين سائر اليوم، وأخته بضفائرها المزينة بالفراشات، والتي تشي بطبيعتها الشقية!
يزداد عمره، وتزداد التفاصيل المحفوظة؛ كل ركن بالبيت له طابعه الخاص وذكرياته، هناك فوق المجلى توجد “السدة” مستودع كنوز الأطفال، كل الألعاب منذ أنشئ البيت حتى اللحظة، محفوظة هناك، ويكفي أن يدخل الطفل فيها، ليغرق في بحر من الدمى والسيارات ومجسمات الحيوانات والألعاب الورقية، فلا يخرج إلا آخر النهار منهكًا باحثًا عن سريره لينام، والمطبخ وما أدراك ما المطبخ، مكان اجتماع الأسرة بعد طول غياب، حول طاولة الطعام، التي وضعت فيها الوالدة حبها قبل مهارتها، يتجاذب الجميع أطراف الحديث، ولا غنى عن المشاكسات والمناكفات بين الأخوة، وأما غرفة المعيشة بحجمها الصغير وأثاثها المزدحم وألوانها الدافئة، وزواياها المليئة “بالزراريع” تمكّن البهجة في القلب، وأما التلفاز فقد شهد “لمّة” العائلة على المسرحيات المصرية وما يرافقها من ضحك لامتناهٍ، وغيرها من الجمعات لترقّب الأخبار المفصلية وما بعدها من تحليل وجديّة طوال السهرة، والغرف الخاصة، التي تحمل روح ساكنيها وهوياتهم، فذلك القارئ النهم، الذي ودّ لو حوّل جزءًا من خزانته لرفوف إضافية ليكمل مكتبته، وذاك الذي ملأها بصور ممن يحبهم من المشاهير، وكان له في كل شهر هواية واهتمام مختلف، وغرفة الوالدين التي تمتلئ بالأدوية
و “ألبومات الصور”، وكل بقعة فيها تحمل مشهدًا، هناك أفشى أحدهم بسر كتمه وأرّقه، وأمام المرآة وقف أحدهم ليعدل والده ربطة عنقه قبل مقابلة عمل مهمة، وعلى التخت جلست إحداهن لتمسح والدتها دموعها بعدما عانت من دروس الحياة الصعبة..
وفي فناء البيت، كانت الدرّاجات الملقاة بعد المغرب، تدل على يوم حافل في العطلة الصيفية، وعدد الكراسي الكبير، يعني أن زوار هذا البيت كُثُر، وصناديق زيت الزيتون تنبئ عن موسم حصاد طيب، لم تذهب فيه أتعاب شباب العائلة والفطورات التي أعدتها الصبايا لأيام سُدى، وما زال صدى الأطفال يتردد بعدما وجدوا المختبئ الأخير في لعبة “طماية تخبي”، وتنبيه الجد المنزعج من صراخهم كان كفيلًا بأن يخلق حالة النقيض في المكان بعدما كنت لا تجد فيه موضع قدم!
عَبَرَ الشاب الذي كان طفلًا تحفل ذاكرته بكل هذا، وهو يعرج، بعدما نزل صاروخ على منزله، جعل يتأمل كل بقعة، يراها الناس رُكامًا، ويراها نفسه التي نُسِفت بكل جزء متدمر، كل شبر في هذا البيت شكّل جزءًا منه، وأنّى له أن يعود كُّلًّا بعد هذا؟
لا شيء يصف الحرب، تفاصيلها مرعبة، لكن المؤلم هو أن الحرب تسرق منك ملامح الأمس، بذكرياته، وأشخاصه، وأماكنه، وتقذفك بلمح البصر في عالم بلا ملامح!
- اللوحة من حساب تويتر نورة (Norah4art)