الموت يهمس: أنا قريب، وحولك أصناف من الصخب. 

في الآونة الأخيرة بت أكثر تركيزًا مع الوفيات المنتشرة، وأتوقف عند الذين يذكرونني بنفسي، فتيات في منتصف العشرينات، في أوج عطائهن، لم يعدن موجودات، أسارع للسؤال ما السبب؛ لا شيء كانت على رأس عملها وتوقف قلبها، كانت تقود السيارة ولم تعد المكابح تعمل، سقطت من مكان عال، وهكذا، حتى آخر الأسباب التي لا حصر لها. 

يواسي الجميع نفسه بالبحث عن الأسباب، لأن مواجهته مع فكرة الموت الذي من دون سابق إنذار تُرعبه، ولا بُدّ أن يكون مريضًا، أو عجوزًا جاوز السبعين ليكون موته منطقيًّا ومقبولًا! 

ولكن يستمد الموت قوته من لا منطقيته، يبدو مهيبًا ومخيفًا لأنه يأتي دون أي مقدّمات، يتساقط الناس من حولك، فمنهم يشاد به وبعمله، ومنهم من يُسِرُّ الناس فيما بينهم كم كانت وفاته مفتاح فرج، وباب راحة. 

تتأمل هذه المواقف، ولكن تشعر بأن الموت بعيد، كأنك تحمل صكًّا يعفيك من زيارته، ثم تجلس لتصارح نفسك بحقيقة وجوده وقربه، فتخاف خوفًا عظيمًا، من تقصيرك، وبعدك، ودنو همتك، وطول أملك. 

بتذكر الموت ننجو؛ من أخذ الحياة على محمل الجد، ومن إعطاء المواقف حجمًا أكبر، ومن تغذية البغض، أو السعي للانتقام.

يعلمنا أن الطريق إذا كثرت تشعباته، وامتلأ بالسائرين، عرقلنا عن بلوغ الهدف، والسعي لكل ما يدفعنا لإحراز خيري الدنيا والآخرة. 

وأصدِّق أن الاستحضار المكثف لفكرة الموت يجعلني أحيا، أنظر للأيام بامتنان أكثر، كهبات من الله، أُقدِّر فيها نعمه، وأشكره عليها، بحسن العمل، والإحسان للأهل، والتشبث بتحقيق رضا الله في دقائق الأمور وأعظمها. 

الموت يحررنا من قيد الخوف فنغدو أقل تهيُّبًا، ويبدد الضبابية عن كامل الصورة، بالتركيز على الأهم، هو البوصلة التي تجعلنا لا نحيد، فلا وقت لغياب المعنى وسؤال الجدوى، وقد تتخطفنا المنايا في أي لحظة. 

قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفۡسࣲ ذَاۤىِٕقَةُ ٱلۡمَوۡتِۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوۡنَ أُجُورَكُمۡ یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ فَمَن زُحۡزِحَ عَنِ ٱلنَّارِ وَأُدۡخِلَ ٱلۡجَنَّةَ فَقَدۡ فَازَۗ وَمَا ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا مَتَـٰعُ ٱلۡغُرُورِ﴾.

يذكّرنا الله -عز وجل- بحقيقة نتناساها وهي أن كأس الموت، سيمر بالجميع، والمُبهر من استطاع نيل الجنة، وحمى نفسه من النار، وهذا هو الفوز العظيم الذي لن يعدله شيء أبدًا، وعليه كل لحظة هي اختبار لمقدار تمسك الإنسان بهذا الهدف الأسمى، فلا يطغى متاع هذه الدنيا الزائلة، على تحصيل النعيم الممتد والخالد هناك.

Scroll to Top