بما أننا في عصر الصورة، كثيرًا ما نتعرّض لمشاهد معيّنة، تجعل من تأطيرنا لبعض المفاهيم والمواقف أمرًا معتادًا، وتوقعنا أسرى لمفهوم الاختزال!
مثلًا، تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي، لقطات شاشة لمحادثات بين أشخاص تجمعهم علاقات؛أب وابنته، زوجة وزوجها، إخوة، أصدقاء، تخلق نمطًا معيّنًا من الردود الواجبة، التي تخزن في اللاوعي، وتبرر الغضب الناجم عن غيابها في تفاعلات الناس وتواصلهم، لمجرّد أنها لم توافق نموذجًا بات الأكثر صحّة لتصدره!
أو تلك الصور المقتبسة من أفلام ومسلسلات، وما تحتويه من عبارات، عن أحباء أو عائلات أو زملاء، تُبرِز سلسلة من السلوكيات في هذا الوجود الرحب والذي لا يقتصر عليها، ولكن تصبح معبودًا يلتف الناس حوله متأملين نيله وعيش تفاصيله، وكل ما لا يشبهه يعني فواتًا لخير وحظ عظيمين!
لطالما كان تضييق الواسع عندي مُرعبًا، بدءًا من تأويل نص ديني حتى أبسط تفاعل حياتي مع التصور المحمول عنه، فهذا الحرص على تعزيز صناديق جاهزة تختصر فيها المفاهيم في هيئة معينة لا تبرحها، فيه تقييد لمعانٍ مستفيضة!
التدين
إذا ما سمعت كلمة ملتزم أو ملتزمة، تبادر إلى ذهنك، رجل ملتح، يرتدي ثوبًا، يحمل مسبحة، يذهب للمسجد، وفتاة منتقبة، لا تكاد تسمع صوتها، وغالبًا معظم لباسها كالح السواد، وأجد في نفسي من هذه الصورة النمطية الكثير، لأن الطريق إلى الله لا يحمل شكلًا بقدر ما يعزز جوهرًا، منظومة متكاملة من الأخلاقيات والقيم والضوابط التي لا بد أن يتمثلها الإنسان، ليصل إلى رضى الرب، وهنا أستذكر قصة الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم سيدخل عليكم رجل من أهل الجنة، ولمّا رأوه لم يعرفوه، وحاول أحد الصحابة أن يخالطه ليرى من عمل يومه ما أناله شرف البشرى على لسان نبيه، فيكتشف أنه كان ينام نقي السريرة لا يحمل غلًا على أحد من إخوانه، وهُنا توسيع لمفهوم العبادة، وخروج عن نمطية كسب الأجور والفوز برضوان الله دون وضع حدود تُعيق من التفكر الخلاق في أشكال التدين فيما جعله الدين مباحًا لا نص صريح فيه!
التعامل مع الآخرين
ألحظ باستمرار هذا الانفجار الاستشاراتي فيما يخص العلاقات، وأجد فيها تعميمات بالجملة، عن الشكل الذي لا بد أن توافقه، منشورات طويلة، مقاطع يوتيوبية وريلزية، يتصدر فيها الناصحون ليقدموا وصفات مكتوبة، وكأن البشر بكافة تعقيداتهم وشخصياتهم يمكن التعامل معهم عبر خطوات مدروسة تؤول نهاية لنتيجة مُرضيَة، قد يُجتمع على إطار عام من الصفح والتغافل واللين والمروءات التي تحفظ متانة الروابط، ولكن لكل علاقة بطرفيها خصوصية تستدعي إعمال العقل في كل فعل ورد عليه، والاقتصار على الدندنة في مدار مذهب واحد والتركيز عليه يغفل تنوع البشر!
العلوم
حتى العلم ناله من السطحية في فهمه والتعاطي معه ما ناله، لتجد معلومة محددة تطوف الأرجاء حقيقة لا مراء فيها، مع جزم المتخصصين وأصحاب الباع الطويل في هذا العلم، على جدليّتها أو وجود وجهات نظر متباينة عنها!
البطولة
منذ سنة ونصف وأنظار العالم لا تتزحزح عن غزة، ومع الأسف الشديد لم تساهم هذه الأنظار في تقليص حجم الألم والمأساة هناك، ولكن ركزت على ما يصدر من الأهالي المحاصرين وجعلتها مادة خصبة لخوض النقاشات وسرد التعليقات، ومما كان يُثقِل قلبي، تصدّر صورة مفصلة عن البطولة، يخوّن كل من نشز عن حدودها المرسومة بحذر بريشة المتفرج القادر على الإسهاب لغيابه عن ساحة الوجود الفاعل، ولو أن الواحد منّا وضع أي اعتبار جانبًا، وفقط تأمل؛ لوجد في كل نفَس وحركة وسعي على تلك الأرض، ما يسطر في القواميس على جعل غزة مرادفًا للبطولة، دون أي حاجة ليعبروا على قائمة من المواصفات تنظر إن كانوا يستوفوا المعايير أم لا!
فالغزي في بداية النهار الصادح بأن لن أترك أرضي، وفي الظهر يحمل الماء، ويزيل الركام، ويهتف غاضبًا، وفي عقب النهار، ساخط من الأخبار والمؤامرات، هو امتداد مستمر لمعنى البطولة دون أخذ صورة مقتضبة من المشهد الكامل مع تهميش ما لا يلائم ما يتطلبه المخيال العام!
وعلى ما سبق تستحضر مئات الأمثلة، عن الهوس في أخذ “لقطات شاشة” سريعة ليُبنى عليها فهم وتأويل وقواعد على هشاشتها وبساطتها وعدم كفايتها.
لذلك أحب كثيرًا استحضار قصة الصحابي الجليل عبدالله بن مسعود رضي الله عنه عندما كان يجتني سواكاً من الأراك، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفؤه، فضحك القوم منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (مم تضحكون؟) ، قالوا: يا نبي الله من دقة ساقيه، فقال: (والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من أُحُد).
يعلمهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من الاهتمام بالصورة، أو الغرق في جانب واحد إلى أعماق المعنى والنظر لكافة المعطيات، فقيمة بن مسعود لن تحدد بشكل أو هيئة، ولكن بقدره عند الله وكيف ينظر إليه.
أعلم تمامًا أنا وأنت، بواقع اليوم محاطون بلقطات الشاشة، في أفكارنا عن أنفسنا والآخر والعالم بما فيه من تفصيلات، قد نفشل كثيرًا في الخروج من سطوة الرمزية الواضحة التي تجنبنا عبء التفكير والأسئلة، ولكن ما أن نحرك رؤوسنا بانوراميًّا ونشهد عظمة اتساع الرؤية، ندرك كم فوّتنا بالنظر في اتجاه ثابت.